تـابعـنـــا
Facebook IconTwittter IconInstagram Icon

اليمن وسلاح الشائعة

إذا كان هناك سلاح محلي خالص تريد جماعة الحوثيين أن تتفاخر بصناعته وبنائه من الصفر وحتى لحظة الإطلاق، فهو الشائعة. ولو أن نوبل استحدثت جائزة للتضليل، لفاز بها عبدالملك الحوثي بجدارة وبدون منازع في الكرة الأرضية.

يقولون إن هذه الجماعة لا تستطيع العيش بدون حروب. تموت ببطء كلما استنشقت هبوب رياح السلام، لكن الكثيرين يتجاهلون أن الحروب الحوثية لم تكن لتستمر بهذا الشكل لولا أطنان من الأخبار المزيفة التي تغسل بها أدمغة البسطاء وتوهمهم بأنهم يخوضون معركة بأوامر إلهية.

التضليل كأداة لتدمير الوعي

خلال عشر سنوات من الانقلاب، نجح الحوثيون في تدمير وعي أكثر من 60% تقريبًا من المجتمع، مستخدمين سلاح الشائعة. خطابات ومحاضرات، ملازم ودورات ثقافية، كتب دراسية محرفة، ووسائل إعلام متعددة، كلها تنقل رسالة واحدة: تسويق الأكاذيب وتحويلها إلى حقائق دامغة وعقيدة راسخة.

بالنسبة لشريحة واسعة من الناس الذين يعمل الحوثي على تدجينهم منذ سنوات، الوقود المغشوش في صنعاء لا يكشف عن فساد تديره مافيا تجار الحروب، بل عن مؤامرة إسرائيلية. وصواريخ يحيى سريع، التي يُزعم أنها فرط صوتية، قادرة على الوصول إلى أمريكا اللاتينية وليس تل أبيب فقط. أما حاملة الطائرات الأمريكية ترومان، فقد خرجت عن الخدمة، وسيبيعها ترامب "تشليحًا" أو ربما يهديها لسلطان عمان لتحويلها إلى مصلى عيد نظرًا لسطحها الفسيح.

العمليات العسكرية وتأجيج التضليل

العمليات العسكرية الأمريكية منذ منتصف مارس الماضي أعادت التضليل الحوثي إلى الواجهة. مؤشر الشائعة في صنعاء حقق أعلى الأرقام مستفيدًا من الاشتباكات بين بيانات متحدث الحوثي العسكري والقطع البحرية الأمريكية، واستراتيجية "مدري"، التي تهدف إلى إرباك الناس وإصابتهم بالخرس تجاه ما يجري، مع التلاعب بأرقام ضحايا الغارات حسب مزاج الجماعة.

باستثناء ضربات العاصمة صنعاء التي تخرج للعلن فور وقوعها، تلجأ جماعة الحوثي إلى التعتيم عن عشرات الغارات الجوية في محافظات مختلفة، وتتلاعب بالأرقام والأماكن والأزمان والضحايا.

تستطيع الجماعة تجاهل العديد من الغارات التي وقعت بالفعل في محافظات مثل صعدة وعمران، وفي الوقت نفسه تسوّق أي انفجار في أي مكان على أنه صاروخ أمريكي.

على سبيل المثال، حادثة سوق فروة الغامضة في مديرية شعوب بصنعاء، التي أبلغ سكان محليون عنها في نفس الليلة بأن الانفجار جاء عقب أصوات غير مألوفة لا تشبه الطيران الحربي، وأنكرها مسؤولون أمريكيون لاحقًا، في رد واضح على ادعاءات الحوثيين بأن الضحايا تجاوزوا 30 قتيلًا.

بالنسبة للحوثي، الشائعة لا تحصنه فقط من المساءلة أمام الشعب، بل تحولّه إلى شخصية مقدسة في نظر أنصاره. بعد أسبوعين من العمليات العسكرية، وبينما كانت الصحافة تعتمد على حصيلة تقديرية من وسائل إعلام حوثية تبلغ حوالي 300 غارة جوية، أعلن عبدالملك الحوثي عن 900 غارة، ليُظهر نفسه وأتباعه كصامدين أمام قوة نارية غير مسبوقة.

يظهر الحوثي بشكل دوري في خطابات الخميس، متحدثًا عن أرقام فلكية للطائرات المسيرة والصواريخ المجنحة، أمام جمهور مؤمن بكل حرف يصدر عنه، ويتعامل مع الأخبار الزائفة كحقائق لا تقبل النقاش.

دور الصحافة ومواجهة الشائعات

في ظل هذا التجريف الهائل للحقيقة، لا خيار للصحافة سوى التصدي ومحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، خاصة بعد أن أصبح الكثير من الناس يروجون الشائعات، سواء بقصد أو بدون قصد، مسهمين بذلك في اغتيال الحقيقة.

الصحفيون قد يكونون مقصرين، لكنهم ليسوا وحدهم المسؤولين. المنابر الإقليمية أيضًا ساهمت إما في نشر شائعات الحوثي أو محاربتها بشائعات أخرى.

الخلل الذي أصاب الوعي العام يحتاج إلى صحافة حقيقية تجعل المتلقين يتوقفون ويتساءلون: لماذا وكيف؟ حان الوقت لتدقيق السرديات الأحادية. المعلومة لا تصبح حقيقة إلا بعد التحقق منها من مصادر متعددة وموثوقة.

تفكيك ترسانة الشائعات الحوثية الضخمة يحتاج إلى إعلام مهني مواكب للتطور الرقمي، يفند الأكاذيب، يعيد تصحيح المسار، ويحمي المجتمع الذي ظل لعشر سنوات فريسة لماكينة أكاذيب لا يمكن مقاومتها بسهولة.

خطوات نحو الصحافة المهنية

بدأنا قبل أسابيع بخطوة أولى عبر إطلاق منصة "نوافذ يمنية" التي تهدف إلى إعادة الاعتبار للصحافة الجيدة، وتوفير المعلومات من مصادر موثوقة ومنابر مهنية متعددة، مع فتح شراكات مع منصات تدقيق الحقائق لمواجهة الأكاذيب.

اليوم، نؤمن أن هذه الرسالة ستثمر أكثر، خاصة مع ولادة منبر واعد يقوده الزميل صادق الوصابي.

بإمكان المشاريع الإعلامية الجديدة قيادة ثورة تصحيح للوعي، ومعالجة ما أفسده الحوثي، خاصة إذا تمكنت من تجاوز أكبر تحدياتها: توفير التمويل اللازم لنجاح مشاريعها الطموحة.

لا يفوتك هذه المقالات..