تـابعـنـــا
Facebook IconTwittter IconInstagram Icon

"يا بو زيد": أغنية من الذاكرة اليمنية والتاريخ السياسي

الفن في اليمن كثيراً ما يكون ملاذاً للناس، وبوابةً إلى ذكريات الطفولة وحنين الماضي. أغنية "يا بو زيد" للفنان أحمد فتحي، واحدة من هذه الأعمال التي بقيت في الوجدان الجمعي لليمنيين. صوته المميز أيقظ مشاعر الحنين لدى أجيال، وأعاد إلى كثيرين ذكريات الطفولة.

أتذكر أغنية يا بو زيد وسماعها لأول مرة من شاشة تلفاز منزلنا في مدينة الحديدة، لم أكن أفهم معنى الكلمات كلها ولم أكن أفهم إلى أي مدى كنت صغيرة بحيث لا أفهم في السياسة، ولكنها كانت تشعرنا بالشغف والرقص وأتذكر كيف كانت يدينا تتحرك ونشترح بالعدني مع عود فتحي.

وأنا أستمع إلى هذه الأغنية اليوم، أتساءل: هل سيأتي اليوم الذي تقام فيه حفلات غنائية في صنعاء كما تلك الحفلة التي شاهدتها من التلفاز، أم أن صنعاء دخلت عصر الظلام الأبدي؟ فهل يا "أبو زيد"، أنتَ رمزٌ للأمل الذي لم يتحقق بعد!، أم أنك تعد صدىً وانعكاس لخيباتٍ ما زالت تتردد في طيات ذاكرتنا؟ وهل "الحمامات التي تنوح بدري" و"المسك الذي يفوح بدري" هي مجرد صور شعرية، أم أنها نداءات خفية لسلامٍ مفقود وحياة مسلوبة؟ وهل "المتيّم الذي غلب ما يبوح" هو العاشق فحسب، أم هو الشعب الذي يحمل آلامه بصمت، بانتظار فجرٍ جديد يشرق على اليمن الوحيد، ويُسلّي خاطره المنهك من هذه الحرب التي لا تنتهي؟"

لم يقتصر إبداع أحمد فتحي على العزف والأداء فقط، بل تعاون مع شعراء يمنيين وعرب كبار، وغنّى من ألحانه مطربون كبار في العالم العربي. وتُعد "يا أبو زيد" واحدة من جواهر الشاعر والملحن الأمير أحمد فضل القمندان، التي كُتبت في عام 1935 تقريباً. وقد منحها أحمد فتحي حضوراً مختلفاً داخل اليمن وخارجه بحسه الموسيقي التجديدي، ليضيف رونقاً خاصاً لهذا اللون اللحجي الفريد الذي أبدعه القمندان.

وعندما عاد فتحي إلى اليمن، وتحديداً إلى خشبة المسرح الوطني في صنعاء، عاصمة الثقافة العربية عام 2004 بعد سنوات قضاها في مصر، كانت تلك اللحظة أكثر من مجرد حفلة موسيقية. مثّلت معاني كثيرة له، أهمها العودة لفنان عانى في بلده ثم استقر في مصر. ذلك اللقاء في مسرح صنعاء كان حدثاً ثقافياً كبيراً لا يتكرر، حيث تراقصت أنوار المسرح في حضور جمهورٍ كبير من كل مكان، وامتزجت المشاعر مع كل نغمة وكل كلمة صدح بها صوته. عادت القلوب لتستعيد ذكريات عزيزة، وتلتمس الطمأنينة والفرح، فلطالما كان الفن مصدر سعادة لليمنيين.

أما كلمات القمندان في "يا بو زيد" فهي نموذجٌ للشعر الغنائي الذي يجمع بين البساطة والعمق الرمزي. تتكرر لازمة "يا بو زيد" في الأغنية، وهي قد تشير إلى شخصية محبوبة أو رفيق رحلة، أو حتى رمز للزمان أو القدر في مفهوم شعري، يستحضره الشاعر في سياق الشوق والألم. جزء من كلمات الأغنية:

يا عجيبي عجيبي عجب
هاش قلبي وقَفّا وهَب
المخرّص بقرط الذهب
بِتّ ساهر مع السامري
...
ريحة المسك بدري تفوح
تنعش الروح تشفي الجروح
والمتيّم غَلَب ما يبوح
يِذْرِفِ الدمع بالباكري

وإذا حاولنا فهم الأبعاد السياسية للأغنية، يبدأ الأمر من سيرة صاحبها أحمد فضل القمندان (1881-1943م)، الذي كان أميراً وقائداً عسكرياً في سلطنة لحج التي كانت جزءاً من المحميات البريطانية في جنوب اليمن. ينتمي القمندان إلى أسرة "العبدلي" التي حكمت سلطنة لحج زمن الاحتلال البريطاني. هذه الخلفية وضعته في قلب المشهد السياسي، في زمن التحولات والصراعات. فهل يمكن لشخص بهذه المكانة أن يكتب عن "يا عجيبي عجيبي عجب" و"المتيّم غلب ما يبوح" بمعزلٍ عن هموم وطنه وشعبه؟ ألم يلجأ الفنانون في الأزمان المضطربة إلى الترميز في أعمالهم للتعبير عن مشاعر جماعية بطريقة غير مباشرة؟

وتتكرر لازمة "يا بو زيد" في الأغنية، وتحمل في طياتها بعداً سياسياً خفياً. ففي الثقافة اليمنية والعربية، يرتبط اسم "أبو زيد" بالمثل الشهير "كأنك يا أبو زيد ما غزيت"، والذي يُضرب للدلالة على الجهد الكبير الذي لا يُثمر عن فائدة، أو الإنجازات التي تتبدد كأنها لم تكن. هل كان القمندان، القائد العسكري الذي شهد تحولات عصره، يشير بهذا النداء إلى حالة من الإحباط أو خيبة الأمل من مساعٍ وطنية لم تحقق أهدافها المرجوة؟ قد يكون "أبو زيد" رمزاً للوطن الذي بذل الكثير، أو للقضية التي لم تكتمل، أو حتى للآمال المعلقة على قيادات أو أحداث لم تفِ بالوعود.

ويُصنف لحن "يا أبو زيد" ضمن قالب "عدني لحجي شرح"، وهو نمط موسيقي متجذر في جنوب اليمن، حيث كانت الموسيقى اللحجية العدنية تعبيرًا عن الوجدان الشعبي وحافظة للتراث. وتظل أغنية "يا بو زيد" أيقونة فنية خالدة تجاوزت حدود الزمان والمكان، وارتبطت بالسياق المحلي لليمن، وطرحت تساؤلات سياسية وفنية في آنٍ واحد، لتبقى جزءاً من الذاكرة الجماعية لليمنيين.

"يا بو زيد" أغنية شعبية من الذاكرة اليمنية والتاريخ السياسي

الفن غالباً ما يكون ملاذاً لنا، وبوابة لذكرياتنا ونوستالجيا طفولتنا. هكذا كانت أغنية "يا بو زيد" للفنان اليمني أحمد فتحي. صوته، الذي يُعدّ من الأصوات المميزة في اليمن، كأنه يوقظ حنيننا إلى الطفولة. أتذكر أغنية يا بو زيد وسماعها لأول مرة من شاشة تلفاز منزلنا في مدينة الحديدة، لم أكن أفهم معنى الكلمات كلها ولم أكن أفهم إلى أي مدى كنت صغيرة بحيث لا أفهم في السياسة، ولكنها كانت تشعرنا بالشغف والرقص وأتذكر كيف كانت يدينا تتحرك ونشترح بالعدني مع عود فتحي.

وأنا أستمع إلى هذه الأغنية اليوم، أتساءل: هل سيأتي اليوم الذي تقام فيه حفلات غنائية في صنعاء كما تلك الحفلة التي شاهدتها من التلفاز، أم أن صنعاء دخلت عصر الظلام الأبدي؟ ولكن مهما كان الليل طويلاً، سيأتي نور الصباح لا محالة. فهل يا "أبو زيد"، أنتَ رمزٌ للأمل الذي لم يتحقق بعد!، أم أنك تعد صدىً وانعكاس لخيباتٍ ما زالت تتردد في طيات ذاكرتنا؟ وهل "الحمامات التي تنوح بدري" و"المسك الذي يفوح بدري" هي مجرد صور شعرية، أم أنها نداءات خفية لسلامٍ مفقود وحياة مسلوبة؟ وهل "المتيّم الذي غلب ما يبوح" هو العاشق فحسب، أم هو الشعب الذي يحمل آلامه بصمت، بانتظار فجرٍ جديد يشرق على اليمن الوحيد، ويُسلّي خاطره المنهك من هذه الحرب التي لا تنتهي؟

أحمد فتحي، هذا الفنان والملحن اليمنيّ التهامي، لم يقتصر إبداعه على العزف والاداء فحسب، بل امتد ليشمل تعاونات فنية رفيعة المستوى مع شعراء يمنيين وعرب، وغنّى من ألحانه مطربون كبار على مستوى العالم العربي. وتُعدّ أغنية "يا أبو زيد" واحدة من جواهر الشاعر والملحن الأمير أحمد فضل (القمندان)، التي يعود تاريخها إلى حوالي تسعين عاماً (1935)، وقد منحها أحمد فتحي بحسّه الموسيقي التجديدي حضوراً مختلفاً داخل وخارج اليمن، مضيفاً رونقاً خاصاً لهذا اللون اللحجي الفريد الذي أبدعه القمندان.

حينما عاد فتحي إلى اليمن، على وجه الخصوص، إلى خشبة المسرح الوطني في صنعاء، عاصمة الثقافة العربية في عام ٢٠٠٤، بعد سنوات قضاها في مصر، كانت تلك اللحظة أكثر من كونها حفلة موسيقية. كانت تمثل معاني كثيرة بالنسبة له أولها "العودة" لفنان عانى في بلده ثم استقر في مصر، كان ذلك اللقاء على مسرح صنعاء حدثاً ثقافياً ولقاءً لا يتكرر. تراقصت أنواره في حضور جمهورٍ كبير جاء من كل مكان، وامتزجت المشاعر مع كل نغمة وكل كلمة صدح بها صوته. كانت القلوب تستعيد ذكرياتٍ عزيزة، وتلتمس الطمأنينة والفرح الذي لطالما كان الفن أحد أسبابها في حياة اليمنيين.

تُقدم كلمات القمندان في "يا أبو زيد" نموذجًا للشعر الغنائي الذي يجمع بين البساطة والعمق الرمزي . تتكرر لازمة "يا أبو زيد" في الأغنية، وهي ليست نداء فقط، بل قد تُشير إلى شخصية محبوبة أو رفيق رحلة، أو حتى قد تكون رمزًا لـ"الزمان" أو "القدر" في مفهوم شعري، يستحضره الشاعر في سياق الشوق والألم. ولنستمع ونقرأ إلى جزء من كلماتها التي ترسم هذه اللوحة الغنائية :

(دور)

يا عجيبي عجيبي عجب

هاش قلبي وقَفّا وهَب

المخرّص بقرط الذهب

بِتّ ساهر مع السامري

...

ريحة المسك بدري تفوح

تنعش الروح تشفي الجروح

والمتيّم غَلَب ما يبوح

يِذْرِفِ الدمع بالباكري

إن فهم الأبعاد السياسية لأغنية "يا أبو زيد" يبدأ من سيرة صاحبها، أحمد فضل القمندان (1881 - 1943م). الذي كان أميراً وقائداً عسكرياً في سلطنة لحج، التي كانت جزءاً من المحميات البريطانية في جنوب اليمن، وينتسب إلى أسرة "العبدلي" التي حكمت سلطنة لحج زمن الاحتلال البريطاني لمستعمرة عدن. هذه الخلفية وضعته في قلب المشهد السياسي لزمنه، حيث كانت المنطقة تشهد تحولات وصراعات. فهل يمكن لشخص بهذه المكانة أن يكتب عن "يا عجيبي عجيبي عجب" و"المتيّم غلب ما يبوح" بمعزلٍ تام عن هموم وطنه وشعبه؟ ألم يلجأ الفنانون غالباً في الأزمان المضطربة إلى الترميز والتورية في أعمالهم، للتعبير عن مشاعر جماعية بطريقة غير مباشرة؟

تتكرر لازمة "يا أبو زيد" في الأغنية، وهي لازمة قد تحمل في طياتها بعداً سياسياً خفياً. ففي الثقافة العربية واليمنية، يرتبط اسم "أبو زيد" بالمثل الشعبي الشهير "كأنك يا أبو زيد ما غزيت"، الذي يُضرب للدلالة على الجهد الكبير الذي لا يُثمر عن فائدة تُذكر، أو على الإنجازات التي تتبدد كأنها لم تكن. هل كان القمندان، وهو القائد العسكري الذي شهد تحولات عصره، يُشير بهذا النداء إلى حالة من الإحباط أو خيبة الأمل من مساعٍ سياسية أو وطنية لم تحقق أهدافها المرجوة؟ قد يكون "أبو زيد" هنا رمزاً للوطن الذي بذل الكثير، أو للقضية التي لم تكتمل، أو حتى للآمال المعلقة على قيادات أو أحداث لم تفِ بالوعود.

يُصنف لحن "يا أبو زيد" ضمن قالب "عدني لحجي شرح"، وهو قالب موسيقي متجذر في هوية الجنوب اليمني، حيث كانت الموسيقى اللحجية العدنية تعبيرًا أصيلًا عن الوجدان الشعبي وحافظة للتراث في الجنوب. وفي ختام هذه المقالة، تظل أغنية "يا أبو زيد" أيقونة فنية خالدة، تجاوزت حدود الزمان والمكان، وارتبطت بشكل وثيق بالسياق المحلي لليمن. كما إنها ايضا سؤال سياسي يطرحه فنان من داخل السلطة، وتجمع بين الأجيال، وقيمتها الحقيقية في تداخل عناصرها الفنيّة من كلمات ولحن وأداء، مما يجعلها جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الجماعية اليمنية.

المصادر : https://www.almotamar.net/ibb/print.php?id=17950

المصدر المفيد في غناء لحج الجديد، جمع وإعداد: ابراهيم راسم، شرح عوض علي باجناح، دار الهمداني للطباعة والنشر، (د.ت)، ص59 وما بعدها.

https://bit.ly/44LvJvj

(2) كتاب: (الغناء اليمني القديم ومشاهيره)، محمد مرشد ناجي، الطبعة الأولى 1983، (بدون بيانات الناشر)، ص 105 وما بعدها.

https://bit.ly/46aG32q

لا يفوتك هذه المقالات..