لطالما كانت الكتابة بوصلتي. نحو اليمن، نحو إثيوبيا، نحو السويد. نحو المنفى والعودة، نحو الانتماء والحنين الدائم إلى وطن لا يُدرك تمامًا.
أرى حياتي في شذرات، مبعثرة كصفحات ممزقة من كتاب. أجمعها، أقرؤها بلا ترتيب، لكن الخيط الناظم بينها كان دومًا واحدًا: الكتابة.
كنت طفلة في صنعاء حين أدركت للمرة الأولى أن العالم لن ينقذني. رأيت أمي تخوض معارك محكومة بالخسارة، امرأة تريد الطلاق، عالقة في فخّ قوانين صنعها الرجال من أجل الرجال، حيث لا تكون المرأة سوى هامش في الحكاية. القوانين المجحفة حرمتها من حريتها، ومنعتها من الخلاص من شريكها المُعنف. لم تحصل على العدالة. كنا جميعًا ضحايا. لم يكن هناك مهرب، فصنعتُ مهربي الخاص. كتبتُ. كانت الكتابة ملجئي.
في الرابعة عشرة من عمري، صار دفتري اعترافي المقدس، ودرعي، وبابي السري إلى عالم آخر، عالم أسمّي فيه الأشياء كما هي، وأجد فيه صوتي، وأتحرر من عجز الواقع. كنت أكتب بجنون، بهوس، وكأن حياتي كلها تعتمد على ذلك. وربما كانت كذلك بالفعل.
فيما بعد، حين حان وقت التحاقي بالجامعة، حاول الجميع من حولي أن يدفعوني نحو حياة أخرى، حياة أكثر "معقولية"—وظيفة في بنك، شهادة من كلية التجارة، طريق مستقر، وواقع عملي بعيد عن المغامرة. لكن ما لم يدركوه—وما لم يدركوه يومًا—هو أن الكتابة لم تكن مجرد فعل أقوم به، بل كانت جوهري، هويتي، كياني.
أصبحتُ صحفية. لم يكن ذلك طريقًا ممهّدًا، بل معركة خضتها بكل ما أملك. حاربتُ عائلتي، حطمت القيود التي فرضها مجتمعي، ناضلتُ وسط لهيب ثورة 2011. كتبتُ حين طالبوني بالصمت. كتبتُ رغم معرفتي بأن الكتابة قد تقودني إلى المنفى. كتبتُ حتى عندما كان ثمن الحروف فقدان كل ما عرفتُه من قبل.
وفي المنفى، في السويد، لم تتوقف الكتابة عن أن تكون وطَني الوحيد. عبر الحرب، عبر جائحة الوباء، عبر وحدة ثقيلة كالغرق، ظللت أكتب. الكلمات حملتني حين تعثرت، عبرت بي المسافات، أدخلتني قاعات الندوات والنقاشات، وجعلتني أجلس جنبًا إلى جنب مع أولئك الذين درسوا في هارفارد وأوكسفورد، الذين سلكوا دروب النجاح المعبّدة، بينما كنتُ مجرد فتاة حملتها الكلمات من واقع متواضع إلى عالم رحب. لكن كل ذلك لم يكن يعني شيئًا، فالكتابة وحدها كانت الميزان العادل، جواز السفر الوحيد الذي احتجته في عبوري المستمر بين المنافي والأحلام.
في يوم ما، منحوني جائزة دولية من "لجنة حماية الصحفيين" في نيويورك. شيء ثقيل ولامع بين يديّ، شهادة اعتراف بأن كلماتي كان لها أثر. لكنه كان مجرد وهم. الجوائز لا تعني شيئًا، ليست هي الغاية، ولا الدليل الحقيقي على النجاة. يقولون لي إنني نجمة، ينظرون إليّ بإعجاب ودهشة، كأنني عبرت حاجزًا خفيًا، كأنني حلّقت بعيدًا.
لكن اليمن هي النجمة.
أنا لا أكتب عن الموضة، ولا عن متع زائلة، ولا عن الأشياء التي تُبهر لتُشتّت. أكتب عن شعبٍ لا حدّ لمعاناته، عن شعبٍ ينزف، ويحزن، ويصمد.
هويتي—نصفها يمني، ونصفها إثيوبي—كانت من المفترض أن تكون عبئًا، ظلًا يُخفى، شيئًا يُمحى. لكنني خطَطتُها بالحبر، نسجتُها بالكلمات، وصنعتُ منها قوة لا تُمحى. كتبتُ عن مرض أمي، عن الألم الذي تجذّر في عظامي، عن كل حقيقة قيل لي ألا أنطق بها.
وفي النهاية، لم يكن هناك سوى حقيقة واحدة: الكتابة كانت المركز، كانت الثقل، كانت البوصلة.
كل شيء آخر يتغير. كل شيء آخر يتسرّب من بين أصابعي.
وتبقى الكتابة.