عبر تاريخها الطويل، زهاء سبعة قرون، كانت مدينة الحديدة أكثر المدن اليمنية عرضة للدمار والقصف من الجانبين: البحر واليابسة.
وإذا كانت الحديدة قد تعرضت لدمار فظيع في الحروب الراهنة، ونزح معظم سكانها إلى الأرياف والمدن المجاورة، فإن حالات النزوح بفعل الحروب المتكررة تكاد تكون قدراً حتمياً على "عروس البحر الأحمر"، وفقاً لتوصيف اليمنيين لها.
تعرضت موانئ الحديدة في الأشهر الماضية لقصف أمريكي وإسرائيلي. وعندما احتل الإيطاليون ليبيا سنة 1912، تضامنت المدينة مع الذات العربية في طرابلس الغرب لا مع الأتراك الذين يخوضون حرباً ضدهم بالأساس، فقصفت السفن البحرية للطليان ميناء الحديدة، وقاموا بضرب مواقع الجيش التركي إلى قلب المدينة.
أشيع يومها أن الإيطاليين أغدقوا على بعض الزرانيق بالأموال لمهاجمة الأتراك في الحديدة. وعندما أغارت جموع مقاتلي الزرانيق على مدينة الحديدة من جنوبها، كانت سفينتان حربيتان للطليان تقصفان المدينة من عمق البحر، وألحقتا دماراً بقلعتين خارج مدينة الحديدة.
قامت البحرية الإيطالية أيضاً بقصف قرية "مندر" بالمدافع، ثم دمرت لاحقاً قلعة شهيرة في "الخالي". في أغسطس من ذلك العام 1912، هرب من مدينة الحديدة حوالي عشرة آلاف من سكانها وتشردوا في جهات تهامة الشاسعة، وفقاً لجون بولدري. ولم يسلم المستشفى العسكري التركي (مستشفى العلفي بعد الثورة) من القصف الجنوني للسفن الإيطالية المتمركزة في عمق المياه قبالة الشاطئ.
متارس التُرك وسفن الحلفاء
في الأشهر الأخيرة من العام 1914، قام الأتراك ببناء تحصينات حول الحديدة، ونصبوا متاريس ترابية، وحفروا الخنادق. لقد فعلوا ذلك لأنهم كانوا يخططون للدخول في الحرب العالمية الأولى إلى جانب الألمان، ويا لغبائهم! فقد كانت حرباً بحرية في الأساس!
وبينما كان الجنود الأتراك ينصبون المتاريس ويحفرون خنادق طويلة شرق مدينة الحديدة، كان الأسطول الملكي البريطاني قد أقفل البحر الأحمر في وجه السفن التركية القادمة بالإمدادات، وانقطع كل شيء عن الفرقة التركية المكوَّنة من عدة ألوية نظامية بطول السهل التهامي من رأس العارة جنوباً إلى صامطة حدود الإدريسي شمالاً.
كانت السفن الحربية البريطانية ترابط حول الحديدة واللحية والصليف والمخا والشيخ سعيد، وفي هذه الفترة (من 1914 حتى 1917) كانت تخوض معارك متقطعة مع القوات البحرية الألمانية التي تكبَّدت خسائر كبيرة. في الوقت نفسه، هاجمت السفن البريطانية مدينة الحديدة خمس مرات، وميناءها في رأس كثيب مرتين، وفقاً لبولدري أيضاً.
بعد أن شارفت الحرب العالمية على الانتهاء، أطبقت القوات البريطانية على مدينة الحديدة بمنتهى السهولة، لاستلام عشرات الآلاف من الجنود الأتراك كأسرى بموجب اتفاقية مودروس، وأيضاً لتحرير رعاياها الإنجليز السجناء هناك، ثم قبل ذلك لتكون الحديدة أداة ضغط ومساومة للاعتراف بوجودها الاستعماري (بريطانيا) في عدن ضد الإمام يحيى، الذي دخلت قواته العاصمة صنعاء في نفس الموعد بالتنسيق مع محمود باشا، الذي كان المطلوب رقم واحد في منطقة جنوب شبه الجزيرة لقوات الحلفاء المنتصرين.
عندما تعذر وصول وفد الملك جورج الخامس إلى صنعاء برئاسة الكابتن جيكوب، بسبب الاحتجاز الذي نفذته مشايخ قبيلة القحرة في مدينة باجل، أصدر الإمام يحيى أوامره باجتياح الضالع باتجاه عدن كردة فعل غاضبة عقب قرار بعثة جيكوب العودة إلى الحديدة بعد سبعة أشهر من الاحتجاز في باجل، وكان يفترض أن تواصل طريقها إلى صنعاء. قرر الإمام اجتياح الضالع لهذا السبب، وقررت بريطانيا بالمقابل تسليم الحديدة إلى الإدريسي. واشتعلت الحرب بين الإمامين: الإدريسي ويحيى، والتي امتدت سبع سنوات في تهامة، وخسر الطرفان آلافاً من المقاتلين.
شهادة ميلاد مدينة
أول ظهور للحديدة ابتدأ عام 1395 ميلادي الموافق 797 هجري، كجزء من الساحل، وفقاً للمؤرخ البريطاني جون بولدري. بعد نصف قرن من ذلك التاريخ، أرسل أهالي مدينة الحديدة وفداً إلى سلطنة بني طاهر في عدن للاعتراف بهم (1455). وفي نهاية القرن الخامس عشر الميلادي، ألّف أحمد بن ماجد كتاباً أسماه "الفوائد في أصول البحر والقواعد"، أكد فيه أن الحديدة أحد الموانئ الرئيسية الهامة في اليمن.
بعد 14 سنة على تاريخ القبطان والمؤرخ العماني ابن ماجد، ألّف بامخرمة كتاباً وصف فيه الحديدة بالقرية. وفي العام الذي يليه (1515)، وصلت أول سفينة حربية عليها قوات مصرية من المماليك الذين توقفوا في جيزان، ثم أرسلوا يطلبون من سلطان زبيد – كما يقول جون بولدري – "تزويدهم بالمواد الغذائية لمواصلة السير لمقاتلة البرتغاليين قرب عدن"، وكان في البداية قد وافق على إرسال الطلبات، لكن أحد مستشاريه نصحه بعدم تلبية الطلب، فلربما كانت لهم نية مبيتة للسيطرة على اليمن، الأمر الذي جعله يرفض أي طلب لهم.
وعندما علم المماليك بذلك، تقدموا إلى سواحل الحديدة وأطلقوا نيران مدافعهم (الحجرية) المشتعلة، ثم نزلوا واحتلوا الحديدة. وبعد تدميرها، أخذوا كل أنواع القمح الموجود فيها، وكل أخشاب المنازل، ثم اتجهوا إلى كمران. وأصبحت الحديدة بعدهم أطلالاً، وأصبح ميناء البقعة غرب زبيد يحل محل ميناء الحديدة. وفي نهاية العام، اُحتلت تهامة بالكامل من قبل المصريين.
ترتبت على هذا الوجود الكثيف للقوات المصرية على امتداد السهل التهامي الفسيح في اليمن نتائج كارثية على العرش المملوكي في القاهرة، حيث احتل الأتراك مصر بعد سلسلة من الهزائم التي تكبدتها قوات المماليك، بعدما ارتكبوا خطأ فادحاً وأرسلوا ثلث الجيش وأفضله تدريباً إلى تهامة اليمنية.
المدينة تحت القصف
تعرضت مدينة الحديدة في القرن السادس عشر إلى الدمار ثلاث مرات، وفي القرن السابع عشر استقرت الأوضاع في المدينة إلى حدٍّ ما، وازدهرت صناعة السفن، كما لاحظ ذلك أحد السواح الإنجليز واسمه (جون أوفنيغستون)، الذي أضاف أنه "لاحظ أيضاً أن تصدير البن من أهم نشاطات ميناء الحديدة في ذلك الحين، حيث كان يُصدَّر إلى جدة ومصر وأوروبا".
في تلك الفترة المتأخرة من القرن السابع عشر، كان القراصنة الأوروبيون المتمركزون في مدغشقر يهاجمون السفن القادمة إلى المخا لشراء البن، ولذلك تجنبت السفن القدوم إلى المخا وعدلت إلى ميناء الحديدة واللحية لتحميل البن خوفاً من هجمات القراصنة.
في حقيقة الأمر، إن الساحل الغربي لليمن ظل بفعل أهميته على طريق التجارة الدولية، وأهمية موانئه المصدّرة للبن، في حالة اضطراب دائمة طوال تلك المراحل التي رافقت الحركة النشطة لتجارة القرنين الثامن والتاسع عشر. وعندما صرّح عامل أبي عريش (الشريف حمود أبو مسمار) بانفصاله عن مملكة اليمن تحت حكم أولاد وأحفاد الإمام القاسم بن محمد سنة 1790، توسعت سلطة الشريف أبو مسمار شمالاً وجنوباً، من حدود القنفذة بالشمال إلى بيت الفقيه جنوب الحديدة.
سيطر أبو مسمار على الحديدة، وقام بتشييد "باب شريف"، وكانت مزدهرة، حيث تدفقت العائدات الجمركية إلى خزائن الشريف بكثافة، وكان دخله عظيماً من الموانئ المسرودة من القنفذة جنوب مدينة جدة إلى جيزان وميدي واللحية والحديدة، التي كانت تشهد حركة تجارية نشطة.
التجارة والسباق وظهور قوى طموحة
لم يدم استقرار الحديدة طويلاً، فالتغيرات الدراماتيكية في موازين القوى الدولية والإقليمية المهيمنة كانت تبعثر كل هذا التراكم الحضري والتجاري في عصر متسارع تجارياً ومتغير على مستوى السياسة وسباق النفوذ. كما أن القوى المحلية المتنافسة على اليمن قد ساهمت بدرجة رئيسية في تدمير ليس فقط مدينة الحديدة ومينائها الحيوي، بل أيضاً العديد من مدن الساحل الغربي التي ضربتها فوضى القرن التاسع عشر وأحداثه المتتابعة.
جاءت الغارات الوهابية لقوات الأمير سعود الثاني من نجد باتجاه البحر الأحمر كإعصار انحدر جنوباً بمحاذاة الساحل حتى بلغ الحديدة وبيت الفقيه، وتعرضت المدينتان وغيرهما من المدن التهامية للحرق والدمار. وعندما تشكلت مقاومة يمنية لدحر سعود الثاني من الحديدة، تعرضت المدينة لأضرار مضاعفة، انتهت برحيل الأمير.
ثم جاءت لاحقاً جيوش محمد علي باشا، وطمرت السهل التهامي من شماله إلى المخا، ثم أعلن استقلاله بمصر عن الباب العالي.
بعد دحر قوات الأمير سعود الثاني من الحديدة، سيطر الإمام المنصور علي على المدينة، وأعاد تشغيل مينائها، وأخذت المدينة تتعافى مع مرور الوقت، لا سيما في زمن المتوكل أحمد وبداية عهد المهدي عبد الله.
لم تدم هذه الحالة من الاستقرار طويلاً، ففي عام 1837 تمكن محمد علي باشا من بسط نفوذه على طول الساحل الشرقي للبحر الأحمر مرة ثانية، بدءاً من عقبة الأردن في الشمال إلى باب المندب جنوباً، بعد عملية ملاحقة ضارية ضد ثورة التمرد في جدة التي قادها تركجي بلمز، عندما تعاطف الباب العالي مع هذا القائد المتمرد على خصمها اللدود، باشا مصر.
هرب القائد بلمز باتجاه أبي عريش متحالفاً مع الشريف حسين بن حمود، وشكّلا نسقاً واحداً للاستيلاء على اليمن، وتم لهما الاستيلاء على الحديدة واللحية وزبيد والمخا. وقام محمد علي باشا في نفس الفترة بإرسال جيش قوامه 5600 جندي إلى الحديدة وكمران، بعد أن أحكم سيطرته على الحجاز بالكامل.
وخلال هذه الفترة التي خضعت فيها الحديدة لمحمد علي، تدفق إليها عدد من الرحالة والعلماء الفرنسيين، وإذا كان بعضهم صحفيين ورحالة، فإن بعضهم الآخر كانوا ضباطاً في جيش محمد علي باشا، وكتبوا الكثير من المؤلفات حول المنطقة.
بحلول العام 1839، احتل البريطانيون عدن، ثم حاولوا القضاء على الازدهار التجاري في الموانئ اليمنية الغربية. وكان وصول السفن الإنجليزية إلى شواطئ عدن يجري ضمن عملية سباق حثيثة بينهم وبين القوات المصرية على أهم الموانئ الحيوية المؤثرة على طريق التجارة إلى الهند.
قررت القاهرة سحب قواتها من الحديدة ضمن عملية إجلاء كبيرة، وكان آخرهم يغادر الحديدة في 2 أبريل 1840. وسلم الباشا تهامة إلى الشريف حسين صاحب أبي عريش، بينما سلمت المخا إلى إمام صنعاء المهدي، مقابل مقدار محدد من القهوة سنوياً تسوقها صنعاء إلى صاحب الزمان في القاهرة.
استولى الشريف أبو عريش على الحديدة، ثم استعادها الإمام في صنعاء عقب حرب شرسة، ثم ليستولي عليها الشريف مجدداً بعد ثلاثة أسابيع. وفي عام 1849، أرسل الأتراك جيشاً لاحتلال الحديدة وكمران.
القرار الأخطر الذي أنهك المدينة والميناء
كانت الحديدة في أسوأ حالاتها، ولكن القرار الأصعب والأخطر الذي مثل ضربة قاصمة لكافة الموانئ على ضفاف البحر الأحمر اليمنية كان عندما أعلن البريطانيون ميناء عدن منطقة حرة، وكان لهذا القرار تداعياته السلبية والكارثية على اليمن كلها. لقد تحولت الحركة التجارية وحركة التصدير والاستيراد النشطة إلى عدن كمنطقة حرة.
ورغم هذا البؤس والركود الذي دخلت فيه الحديدة ومثيلاتها من المدن الساحلية الغربية، قام الأمير عايض (أمير عسير) بإرسال لواء متكامل عام 1856 لاحتلال الحديدة، لكنه فشل بعد حصار شديد، صمدت فيه المدينة، ومات من جيشه حوالي 3000 جندي بسبب وباء الكوليرا، وهم منتظرون خارج السور من جهة البحر.
وهكذا ظلت الحديدة رهينة الغارات والدمار، وضحية التنافس الإمبراطوري بين القوى العظمى ووكلائها من القوى المحلية والإقليمية، وصولاً إلى قصف البوارج الإيطالية للمدينة وقلاعها وأسوارها ومستشفاها الوحيد عقب احتلالها ليبيا وانتزاعها من قبضة الأتراك. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى وتعرضت للقصف من السفن الملكية البريطانية المرابطة قبالة الساحل، ثم انتهت الحرب بانتصار الحلفاء، ليحتل الإنجليز الحديدة من جديد، ويغادروها بعد ثلاث سنوات، ولكن لتُرزَح المدينة وكل تهامة تحت واقع مأساوي جديد ومدمّر بفعل الحرب التي انفجرت بين الإدريسي والإمام يحيى.
كسب الإمام يحيى الحرب في تهامة واستعاد الحديدة، لكنه دخل في حرب جديدة مع الزرانيق، ثم أُخمِدت، لتصل قوات الأمير فيصل إلى الحديدة بعد سبعة أعوام من حرب الزرانيق.
وتعرضت الحديدة في الظروف الراهنة لدمار هائل، وشُلّت الحركة التجارية، وشهدت موجات نزوح واسعة للأهالي، ولا تزال المدينة في عهدة الحرب بين أطراف محليين وإقليميين وقوى عظمى، وتبقى رهينة واقع الحياة والموت.