السادس والعشرون من سبتمبر هو يوم أضاء في مهج اليمنيين الأمل، ونسج ما تلاه من أيام بأشعة الشمس، وجبَّ ما سبقه من ظلمات الإمامة. قامت الجمهورية اليمنية في 26 سبتمبر 1962 بعد كفاح تحرري من أحد أسوأ أنظمة الحكم في العالم، لتصبح اليمن دولة بمفهومها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، في سابقة أشبه بمعجزة بعد عدة محاولات وثورات للتخلص من الأئمة الذين كما وصفهم محمد محمود الزبيري بشكل موجز ودقيق: "أسرة واحدة تريد أن تملك رقاب الشعب"! ولعل هذا الوصف فيه من النظرة التحليلية الكثير، لأنه يختصر ما يطول شرحه عن لماذا لم ترقَ الإمامة لتكون فعليًا نظام حكمٍ معاصر، بل كانت سلالية مبرَّرة بالحق الإلهي في الحكم، وهي لا تتناسب حتى مع تعريف الملكيات الحديثة التي بالضرورة تتبنى مفهوم العقد الاجتماعي. في اليمن، الجمهورية هي انتصار إنساني بدرجة أولى قبل أن يكون سياسيًا، انتصار لفكرة أننا نولد سواسية كبشر، وأننا أحرار، وأن لنا حقًا في الحياة الكريمة على أرضنا.
شهدت اليمن نضالات وتضحيات جمَّة من أجل القضاء على الخرافة التي حكمتها وحامت فوق رأس شعبها كغراب شؤم. وتحضرني في هذه اللحظة معاناة والدي وأقرانه الذين انتموا لأسرٍ انخرطت في محاولات التغيير والثورات التي سبقت قيام الجمهورية مثل ثورة الدستور. وعقب فشلها كان والدي طفلًا صغيرًا يتعرض للتنمُّر بصفته "دستوريًّا" عند اللعب في الشارع، واعتُقل جدي مرات عديدة، مما يجعلني أتخيَّل حالة الاغتراب التي عايشها الكثيرون بسبب الجهل الكلي بحقوقهم الذي زرعه الإمام في عقول الناس، واستخدام الخوف والقمع لإخضاعهم وتبديد أي مقاومة تعتريهم تجاه الظلم والبؤس. ولكن كل هذا السعي الحثيث لسد منافذ التغيير لم يكن ليتفوَّق على حقيقة فطرية عند كل البشر: الرغبة بالعدالة! وكمثال على هذا يتبادر لذهني رواية معروفة في أسرتنا بـ"دق ما أحبه"، وهي جملة قالها جدي للسجَّان وهو يدقُّ أغلالًا في قدمه عندما قال له ناصحًا بما معناه: "يا قاضي محمد، كُفَّ لسانك عن الإمام"، فكان الرد أن يكمل دقَّ الأغلال لأنه ببساطة لا يحبُّه ولا يستسيغ ظلمه. وهذا الشعور النابع من الضمير الإنساني تفنده أدبيات القانون الطبيعي وتجعله المصدر الرئيسي لحقوق الإنسان، مما يزيد إيماني بأن الجمهورية كانت نتيجة طبيعية لمناهضة الاستعباد، ونقلة تقدمية جعلتنا شعبًا يتمتع بحقوق وواجبات. فوالدي الذي تم تهريبه إلى عدن في الثانية عشرة من عمره ثم منها إلى القاهرة فقط ليحظى بتعليمٍ نظامي، هو مثال بارز—بشكل بديهي في ذهني—عن حقبة ما قبل وبعد الجمهورية، التي بفضلها التحقتُ بكل مراحل التعليم الدراسي في وطني.
ما أشبه اليوم بالبارحة! فالآن تعود ذكرى 26 سبتمبر في ظرفٍ تتغوَّل فيه الإمامة بنسختها الحوثية، التي تمارس على الشعب اليمني أشد صنوف التنكيل والتجهيل، لتذكرنا في كل لحظة أن المنجز الذي تحقق بقيام الجمهورية في اليمن كان فجرًا تاريخيًا بكل ما للكلمة من معنى؛ ذلك الذي جعلنا نعرف أننا لسنا أقل من أحد بمقياس النسب، وليس هذا فحسب، بل جعلنا نؤمن بالقدرة على تغيير الواقع المجحف وبأننا وكلاء على مصيرنا. ولهذا تُصيب جماعة الحوثي حالةَ هلعٍ عند اقتراب السادس والعشرين من سبتمبر، فهو اليوم الذي سُحِقت فيه سلاليتهم، واكتسب بعده الشعب وعيًا جمهوريًا عصيًّا على الطمس. وقد يكون أعظم تحدٍّ لسلطة الحوثيين الراهنة أنها عادت بعد عقودٍ رُسِّخت فيها الجمهورية فكرةَ المواطنة، مما يجعل الناس مشحونين برفضٍ قاطعٍ للظلامية التي تريد أن تعيدهم إلى وضع امتلاك الرقاب والتشغيل بالسخرة وفرض الجبايات والخُمس وتغيير المناهج والانقطاع الحضاري معرفيًا وإنسانيًا، الذي يتوهَّم الحوثي تحقيقه من خلال أيديولوجيته الرجعية. ولهذا تتعاظم رمزية 26 سبتمبر في أذهان الناس، وتصبح إلهامًا للنجاة وصنع الممكن الذي قد كان، وكم هي ذكرى ذات تأثيرٍ سحري لأنها آتية من رحم التجربة وليس من الخيال وحده.
في هذا اليوم، قبل الانقلاب الحوثي، لطالما «توقَّدت مشاعل الفخار» في العاصمة صنعاء، وأُنيرت الطرق، وخرج الشعب بكامل حبِّه وعفويته للاحتفال بخلاصه الأسطوري من عذابات قرون. وكم هو مُوجِع أن الناس لم يعودوا حتى يستطيعون التعبير عمَّا يعنيه لهم هذا اليوم، بعدما مارس الحوثيون حملات اعتقالاتٍ ضد كل من يحتفل بالجمهورية في العام المنصرم، في مناخٍ لا يتنامى فيه سوى الخوف والموت والمرض، وقضبان مرئية وغير مرئية تحيط بأحلام الناس وتعتقل حتى آهاتهم. كل هذا هو استعراضٌ حيٌّ لماهية الإمامة/الحوثية التي ثار عليها أجدادنا مرارًا. وبينما يظن الحوثي أنه سيمحو هذا اليوم من وجدان الشعب اليمني، فإن الضمير يزداد ولعًا بالحرية، وتترسخ فيه معانٍ قديمة وتتخلق أخرى جديدة تجاه ما تمثله الجمهورية في اليمن. لِنَكُن دائمًا في امتنان كبير لأننا وُلدنا تحت سارية اليمن الجمهوري؛ اليمنِ الذي كانت فيه مدارس وجامعات ومستشفيات ونقابات وصحف وأحزاب. ولنتذكَّر أن الجمهورية "عهدٌ عالقٌ في كل ذمَّة" لنمرِّرها لأجيالنا القادمة.


