تـابعـنـــا
Facebook IconTwittter IconInstagram Icon

البحر والخوف والطريق في ذاكرة اليمنيين

لم تتأسس علاقة اليمني بالبحر على شيء من الود، واليمنيون عبر العصور لم ينشئوا مدينة آهلة بالحياة على شواطئهم الطويلة.

اليمنيون أغلبهم جبليون أو ينحدرون من الجبال، بوعي ينظر إلى البحر كأي شيء نَحس جالب للمصائب. وهناك مثلٌ شائع لدى اليمنيين يجعل البحر ضمن ثلاثة أصناف يكتنفها الغموض ولا أمان مستدام لها. يقولون: "ثلاثة لا أمان لها: البحر والسلطان والزمان"!

الخوف منشؤه التضاريس والمكان والغزوات المتلاحقة. فالأحباش جاؤوا من البحر قبل الإسلام، ثم الفرس أيضاً. وخلال العصور اللاحقة جاءت جيوش الأيوبيين ثم المماليك والترك مرتين عبر السفن للسيطرة على هذا البلد العريق.

يمتلك اليمن عشرات الجزر في البحرين: الأحمر والعربي، لكن ليس هناك جزيرة آهلة باليمنيين وبالحياة عدا سقطرى

لا مدن في الجزر ولا على الشاطئ

يمتلك اليمن عشرات الجزر في البحرين: الأحمر والعربي، لكن ليس هناك جزيرة آهلة باليمنيين وبالحياة عدا سقطرى.

وعلى خلاف العالم وتاريخ نشأة الحضارات، لم تتأسس حواضر الممالك اليمنية تاريخياً على نهر ولا على بحر، إنما شيّد اليمنيون مدنهم على طرق التجارة والحج، ودمرتها حروبهم.

يقع اليمن في جنوب شبه الجزيرة العربية، وجغرافياً خريطته عبارة عن جزيرة أو مثلث له ثلاثة أضلاع: اثنان بحريان (في الغرب والجنوب) وضلع ثالث في الشمال فرضته صحراء شاسعة.

هذه الحالة من الناحية السيكولوجية لها تداعيات مؤثرة، مثل بلد يعيش في عزلة طبيعية عن العالم وتفاعلاته، إضافة إلى الخوف المتأصل لدى نفسية ساكني الجبل من الغرباء القادمين عبر البحار المفتوحة.

من رأس العارة في أقصى جنوب الضلع الغربي تتوازى تهامة مع حالة انبساط البحر الأحمر حتى خليج العقبة في أقصى الشمال. ومن الشرق تشرف على تهامة سلسلة جبال السراة، وما بين الجبل والبحر نشأت المدن.

كيف نشأت مدن غرب اليمن!

يستحوذ البحر الأحمر على الجهة الغربية من اليمن، لكن لا تاريخ مكتوب ولا نقوش ولا شعر ولا أدب ولا مدينة ضاربة في القدم نتجت عنها علاقة إيجابية مع البحر.
هناك أسواق أو مدن مسرودة مثل حبات المسبحة تشكلت في الوسط على رمل اليابسة بعيداً عن الماء، كما لو أنها تلعب دوراً محايداً بين متخاصمَين: البحر والجبل!

هذا الحياد الذي تحول مع خطوات الزمن المتعثر إلى مدن، كان في بدايته عبارة عن محطات توقف قوافل الحجاج من الجنوب والجبال الغربية التي تتجه شمالاً إلى مكة.

أخذت المسافة بين مدينة وأخرى ضمن وحدات القياس القديم مسيرة يوم، أي مرحلة كاملة وفقاً لوحدة قياس الزمن التقليدية (نهار يبدأ من طلوع الشمس حتى مغيبها).

فمثلاً المسافة من مدينة "حيس" إلى "الجراحي" تأخذ مرحلة (نهار)، ثم من الأخيرة إلى "بيت الفقيه" مثلها، ومن "بيت الفقيه" إلى "المنصورية"، ومنها إلى باجل، ثم من باجل إلى الزيدية، ثم منها إلى الزهرة، إلى القناوص، إلى حرض، إلى جيزان، ثم إلى مكة باعتبارها منتهى الوصول وغاية الحاج.

ومكة أو "مكة" هي أم القرى، وهي أيضاً نشأت على السهل التهامي كمدينة تجارية تحاشت الوقوف على البحر ضمن سيكولوجية واحدة ـ ربما ـ طبعت على صدور كل سكان شبه جزيرة العرب: البحر وأهواله.

في مدائح الصوفية وتعشقاتهم بشخص النبي محمد يقول: "يارب صلِّ على النبي التهامي"، الأمر الذي يعني أن محمداً ينتمي إلى مدينة من مدن تهامة العربية.

وأين نشأت مدن الوسط والشرق!

تبدأ مسيرة الحاج الساكن في أقصى الجنوب الجبلي من مدينة "الضالع"، ولمسيرة نصف يوم يتوقف الحجاج في مدينة "قعطبة"، ثم تتوالى المراحل لبيت بعدها في دمت تقريباً، ثم إلى "يريم"، وبعدها في "ذمار"، وهكذا تتابع المراحل: "معبر" ـ "خُدار" ـ "صنعاء" ـ "عمران" ـ "حوث" ـ "صعدة" ـ "صبيا"، ثم "أبي عريش" لتلتقي مع طريق الغرب التهامي لتمضي معاً في اتجاه واحد ومراحل واحدة وصولاً إلى "مكة"!

في الشرق كانت طريق البخور تبدأ من ميناء "الشحر" إلى "تريم"، ثم سيئون، ثم مأرب إلى براقش معين مروراً بنجران صعوداً إلى "أبها"، نزولاً إلى مدن تهامة لتلتقي مع طريق الغرب والوسط وصولاً إلى مكة كمدينة وملتقى شبكة الطرق القادمة من كل أرجاء الجزيرة "لتهوي إليها أفئدة من الناس" لأداء مناسك الحج وليقضوا منافع لهم.

لعنة الحرب الأبدية في اليمن

إلى عقود متأخرة ظل اليمنيون في أعالي الجبال يشيدون بيوتهم كقلاع ضمن وضعيات دفاعية ـ حربية على حافة الحيود، تاركين الوديان الخصبة حيث المياه. والسؤال هو: هل هذه الحالة يمكن العثور عليها في إطار دراسة الظواهر السيكولوجية كحالة لها ما يناظرها في تاريخ علم الاجتماع؟

فوق الجبال شيّد اليمنيون أغلب مآثرهم الحضرية، أو على الصحراء ولكن كمدن مؤقتة اندثرت فور تحول طرق التجارة القديمة التي انتقلت إلى الغرب والوسط وتركت مدن الشرق فارغة لزحف الصحاري.

هذا المجال المتغير بفعل عوامل كثيرة ليس أولها تحول طرق التجارة ولا آخرها تغير المناخ والطقس وتذبذب الأمطار، جعل من اليمن عبر التاريخ بلداً كثير النزاعات ومتجدد الحروب. وتلك سمة بارزة في تاريخ هذا البلد القادم من أعماق التاريخ.

وتسببت الحروب والنزاعات داخل اليمن في دمار وخراب المدن عبر التاريخ. ومن خلال الإحصائيات لوقائع الحوادث والحروب في اليمن على طول مراحل التاريخ، لم يحصل أن استقر اليمن مائة عام دفعة واحدة.

لا يفوتك هذه المقالات..