تـابعـنـــا
Facebook IconTwittter IconInstagram Icon

حكايتي مع المركز الثقافي الفرنسي

بعد عصر أحد الأيام، أعطاني أبي أجرة الحافلة "الدبّاب" وبعثني إلى معمل خياطة في شارع العدل لآتي له ببضاعته. احتفظت بالنقود لأشتري بها "جعالة"، ومشيت في محاذاة سور صنعاء القديمة إلى مدخل شارع العدل على شارع القيادة أستطرق وأتأمل اللوحات الإعلانية والتجارية؛ أسماء كثيرة بعضها على لافتات ضوئية وبعضها الآخر مكتوب بخط اليد على لوحات خشبية.

كنت حينها في المرحلة الإعدادية، أي في منتصف تسعينيات القرن الماضي.

هنا بقالة، وهناك محل مفروشات، وهناك مدرسة جليلة، ثم محكمة مهيبة. وقبل أن أصل إلى العنوان المنشود بعد رحلة سير على الأقدام، قرأت لوحة فرعية مستطيلة مكتوبة بخط أزرق: "المركز الثقافي الفرنسي" مع سهمٍ بالأسفل باللون الأحمر نحو الشارع الفرعي.

ترددت بين أن أتبع فضولي وأذهب إلى حيث السهم والإشارة أو بين الامتثال لمطلب أبي بالعودة سريعاً.

ماذا يعني المركز الثقافي لطفل مثلي؟ هل يعني فرنسا؟ هل يعني مدرسة أخرى على غرار مدرسة خالد بن الوليد أو المعهد الوطني للعلوم الإدارية؟

كبحت فضولي لأن العنوان الذي أريده بعد خطوتين أو ثلاث.

في طريق العودة نظرت مجدداً إلى الإشارة، وأعطيتها ظهري وأخذت طريقي طالما هبط الظلام والشارع بإضاءة باهتة. فكرت: ما الثقافة؟ ما المركز؟ وماذا تعني فرنسا لطفل يمني درس العربية ثم الإنجليزية فقط ولا يعرف من فرنسا إلا أن فيها برج إيفيل وماركات العطور وعاصمتها باريس: الأدب والجمال والأنوار. لم تسعفني الإجابات التي عصرتها من مطالعاتي البسيطة.

قلت في نفسي: عليّ أن أجد عذراً ملائماً في المرة القادمة للعودة إلى هنا ومعرفة ما هو هذا المركز الثقافي الفرنسي.

مضت سنوات، صرفت كل علّة وعذر ولم أتمكن من اتباع الإشارة الحمراء.

دارت الأيام وانتقلت من فصل دراسي إلى آخر حتى أنهيت الثانوية، وجاء وقت الالتحاق بالجامعة. لسبب طويل يطول شرحه وجدتني أسعى ملتحقاً بالقسم الفرنسي.

بعد أسبوعين من بداية الدراسة ولأني تأخرت، دخلت الفصل، ولأول مرة أستاذتنا تتحدث بلغة لا أتصور أنها موجودة. الطلاب حولي كانوا يتابعون ويحركون رؤوسهم ويفتحون الصفحة المطلوبة في الكتب ويجيبون على الأسئلة. وعندما سألتهم: كيف لكم أن تفهموا ما تقول المعلمة؟ قالوا: نحن درسنا دورات عديدة في المركز الثقافي الفرنسي، وإذا أردت أن تتعلم سريعاً عليك الالتحاق بالدورات هناك.

لكن من أين لي أن ألتحق بالمركز الثقافي الفرنسي وأين موقعه؟

كنت على صلة بالجمعية الطلابية في القسم في كلية الآداب. تخطط الجمعية لأنشطة ثانوية بعد الدراسة: إقامة بازار، الالتقاء بسياح فرنسيين، إقامة معارض خيرية، المشاركة في رحلات. أريد كل هذا لكن الوقت لا يسعفني.

في شهور قليلة وفي منتصف العام الدراسي جاء أنور الأصبحي (له الخلود والرحمة) يعول في وجوهنا: "شباب، الباص بيروح، والفرقة معه، وإحنا ما جهزنا شيئاً."

تسارعنا للحاق بالحافلة الذاهبة إلى نادي الظرافي في قلب صنعاء. كان علينا تجهيز منصة في منتصف الملعب ستقّدم عليها فرقة موسيقية فرنسية حفلاً ينظمه المركز الثقافي الفرنسي. وصلنا نصافح أعضاء الفرقة ونتحدث معهم بما تيسّر لنا من كلمات حفظناها في أول شهرين من دراستنا في القسم الفرنسي في جامعة صنعاء. كانوا مرحين وودودين إلى درجة أن اللغة شيئاً ثانوياً لخلق الألفة والتفاهم.

كنت أرتّب بطارية الآلة الإيقاعية التي تكاد تزيد على عشر آلات لشاب عازف ملامحه أقرب إلى الآسيوي وعليه شعر مجعد يتناثر حول رقبته، ممتلئ بلا لحية، حركي لا يتوقف. أخذتُ المضرب تطفلاً وفضولاً وقرعتُ مرتين بلا نغم متسق. ضحك وقال لي جملة لم أفهمها لأنها سريعة وأنا بالكاد أقول اسمي وعمري باللغة الفرنسية. علّمني كيف أضرب على أربع إلى خمس آلات بسرعة وتناغم.

جاء مدير المركز وجاء المعاونون. وأصبح المركز الثقافي يتجسد بأشخاص في ذهني.

قبيل الغروب كانت الحفلة الفنية في ذروتها. المدرجات ممتلئة وتصدح بالهتاف والمرح. كانت هذه أول مرة أدخل فيها نادي الظرافي وأول مرة أحضر فيها حفلة موسيقية.

رجعت إلى دروسي منهمكاً فيها. في الكتاب الذي تعلمت فيه أبجديات اللغة الفرنسية واسمه "بلا حدود الجديد Le nouveau sans frontières" – بغلاف أمامي تتوسطه حمامة بيضاء فاردة جناحيها للأعلى – كانت المشاهد التمثيلية في النصوص مفتعلة والأسماء نمطية وكل حوارات الكتاب تدور حول: نيكولا، سيلفي، فاليري، مسيو دوبون...

ذهبت بعدها في الأسبوع التالي إلى المركز الثقافي الفرنسي الكائن في الدائري على بعد أمتار من جولة كينتاكي حيث يتقاطع الدائري وشارع الزبيري. لم أكن أعلم أن الدخول هناك سيمنحني عنواناً جديداً في صنعاء لا يقل ثباتاً عن مسكني لكنه أكثر إلهاماً.

في أول أسبوع ذهبت برفقة زملاء إلى المركز الثقافي الفرنسي، وهو أكثر من أن يكون معهداً لتعليم الفرنسية، بل مؤسسة تعمل تحت إشراف السفارة الفرنسية كذراع ثقافية وتعليمية فرنسية ومنبر للتعاون مع اليمن.

تعلّقنا بالأسماء في الكتب وصارت نجوماً لدينا. في يوم من الأيام جلسنا متحلقين حول شاب فرنسي قادم من فرنسا لا يتحدث العربية، ونحن نتوق إلى الحديث بالفرنسية لكن مفرداتنا محدودة. فبادر أحدنا وسأله بالفرنسية: "هل تعرف نيكولا؟" وهنا انفجرنا ضاحكين من دهشة وانعقاد حاجبي الشاب.

اعتادت رجلي على الذهاب إلى المركز عصارى كل يوم دراسي. هناك شاهدت أول فيلم على شاشة سينمائية - كانت الأفلام الفرنسية تُعرض مرة في الأسبوع في الدور الأعلى، وهناك دخلت أول مكتبة حسنة التنظيم ساطعة الإضاءة ليس لكتبها رائحة التراب يشرف عليها محمد أبو شعر (فرّج الله كربه وفكّ أسره) ومعين شايف وفطوم وآخرين. وهناك تكونت أجمل صداقاتي وأكثر أيامي بهاءً وإشراقاً. كان في المركز مقهى صغير أنيق يديره محرم مرشد، هو بين المقصف والمقهى، يقدم مشروبات ساخنة على أكواب خزفية بيضاء برائحة البن الباذخة، وفيه كؤوس زجاجية معلقة من أعناقها فوق رأس النادل. الطاولات دائرية والكراسي رشيقة من الحديد المطوع والقش اللامع، وأنا معتاد على الكراسي والطاولات الحديدية في المقاهي اليمنية.

المركز أكثر من عمارة أو معهد؛ بل فضاء حرية لا تقيّدها إلا صرامة حارسه رضوان الذي كنا نمازحه قائلين: لا يليق بك إلا أن تكون خازناً للنار على قسوتك هذه.

في العام الدراسي الأول ظهر فيلم تايتانيك. وكان حديث الناس وشغلهم. وأنا أعيش حيث لا تلفاز بالمرة، فكيف بمشاهدة فيلم! أسمع بحرقة إلى الأحاديث المبهورة والمتفاخرة بهذا الفيلم. في يوم من الأيام وجدت إعلاناً في المركز الثقافي ينوه إلى أنه بالتعاون مع المركز الثقافي المصري سيعرض فيلم تايتانيك.

أخبرت ابن قريتي وزميلي عدنان الذي كان يدرس في كلية التجارة، اختلقنا أكبر الأعذار وأقواها حبكةً وسبكاً وتسللنا دون علم أحد من أهلينا وذهبنا إلى مشاهدة الفيلم، ولكن لسوء حظنا كان المكان ممتلئاً ولم نجد مكاناً إلا إلى جوار عجوز فرنسية قصيرة غضوبة اسمها ماري، كانت في العقد الثامن من عمرها وما تزال تحرص على أن يناديها الناس بـ"مدموزيل"، وكانت يومها تصرخ في وجه المحيطين بها عندما يضحكون أو يتهامسون فأرعبتنا.

في المركز الفرنسي شاهدتُ فيلم "مدام بوفاري" قبل أن أقرأ الرواية. وشاهدت فرنسا في وثائقيات عديدة؛ فرنسا التي طمعتُ بخضرة حقولها وصفاء جوّها وزهو ألوانها. لكن المركز أتاح لي أن أحضر حفلات غنائية لأجمل الفنانين اليمنيين: كرامة مرسال، عبد الباسط عبسي، جابر علي أحمد، عبد الباسط القاعدي، عبد اللطيف يعقوب وأسماء كثيرة...

في المركز حضرت أمسيات ثقافية وحضرت افتتاح معارض فنية في منتهى الجمال والإبداع. كان في المركز بيانو أنيق، وللمرة الأولى همست بأناملي على مفاتيح بيانو وتهيبت الرنين الصادر في القاعة العلوية في المركز.

كان يومي الدراسي الجامعي مقسماً بالتساوي والتوازي بين كلية الآداب القسم الفرنسي وبين المركز الفرنسي. المركز الثقافي هو الرئة التي نتنفس بها أملاً وطموحات وحرية. تعلمنا في المركز ما هو الممكن، وما هو التنوع والاختلاف وكيف نعبر الحدود الذهنية.

مع نهاية العام الدراسي أصبحت من المتفوقين. وبهذه المناسبة عرضت عليّ الملحقية الثقافية الفرنسية منحة للدراسة في المركز الثقافي الفرنسي. أصبحت طالباً في المركز وهناك درست على يد آلآن راجينال وزوجته ميشيل، لودوفيك باليسترا، جسّاس أنعم، ومحمد المقطري، ألبير محمد، عبد الغني الحاجبي، أحمد الأصبحي وآخرين كانوا أنموذجاً للمتعلم للفرنسية. أن تدرس يعني أن تواصل دراستك العليا في فرنسا وتعود أستاذاً جامعياً وتجد فرصة لتعليم اللغة في المركز. كان جمال جبران وجمال الشيباني وشهاب السمّان يأتون من ذمار ظهراً بعد إنهاء دروسهم في القسم الفرنسي في جامعة ذمار. كنا نراهم منضبطين ونتساءل كيف يستطيعون تنظيم وقتهم وإرادتهم بهذه الكفاءة.

كان المركز الثقافي الفرنسي شعلة من النشاط المتنوع وقناة حوار ثقافي وفكري وأدبي وجمالي بين اليمن وفرنسا: أقيمت مسرحيات فرنسية في اليمن، التقى شعراء فرنسيون بشعراء يمنيين في اليمن، وذهب شعراء يمنيون إلى فرنسا ضمن برامج زيارات وتثاقف، وجاءت إلى اليمن كبريات الفرق الفنية مثل "ديزير نوار" وغيرها. جاء إلى اليمن عبر المركز مفكرون وكتّاب ومخرجون فرنسيون كبار. عبر هذا المركز جاء وقابلت الأديب أحمد أبو دهمان، والمفكر الفرنسي مالك شبل.

كان يدرس في كل دورة تعليمية ما يقارب 400 طالبة وطالب، يحظون بتعليم رفيع من معلمين مهرة. كان هناك فعاليات نوعية في عيد الموسيقى أو يوم الفرنكفونية، أو العيد الوطني الفرنسي.

في المركز وجدت فرصة لأتعلّم، وأستكشف، وأتعرّف، ولأجوب العوالم وأنا ما زلت في مكاني. بل إنّ المركز غيّر مسار حياتي؛ ففيه التقيت أول مرة بفتاة أصبحت لاحقاً زوجتي وأمّ أولادي.

انتقل المركز كعنوان أخير ومستقر دائم إلى خلف عمارة كانت الهيئة العامة للاستثمار مقابل السفارة السعودية في الصافية. وتقلبت بي الأيام وتنوعت دراستي لسنوات وطالت أسفاري. وصلت فرنسا وتعلمت ودرّست.

في مغتربي هذا أعبّ من الذكريات ما يعينني على تزجية الوقت الصعب أحياناً، وتكون ذكرياتي مع المركز الثقافي الفرنسي هي الزاد الكبير.

تغيّر اسم المعهد إلى "هنري مونفريد" لكن النشاط لم يتغير، ذهب مدير وجاء آخر، ذهبت مسؤولة وجاءت أخرى. وبقي المركز يتوهج ويشع تعليماً وفناً. حتى انطفأت هذه الشعلة مع هبوب رياح الحرب في اليمن.

وبينما اليمن واليمنيون بأمسّ الحاجة إلى بصيص ضوء، تغيب المراكز الثقافية ويغيب المركز الثقافي الفرنسي.

الآن يمكنني القول إنني عرفت فرنسا، وما زلت أبحث: ما هي الثقافة؟ لكن يؤسفني معرفة أن المركز الثقافي الفرنسي في اليمن قد أغلق أبوابه، ولم يتمكن مدرسو الفرنسية من افتتاح معاهد في المدن اليمنية الأخرى. في هذا الظلام الحالك وشحّ الأمل والحلم، ما عاد بوسع الشباب اليمنيين أن يجدوا نافذة جمال ومعرفة وأفقاً كالتي كان يوفرها المركز آنذاك. فمتى ستعود اللافتة ويرتسم السهم؟