يطمح المزارع اليمني يوسف جميل في أن يحصل البن الذي زرعه لأول مرة في عزلة مرهبة بمديرية ذيبين، محافظة عمران، على نسبة تذوق تتجاوز 88% خلال المزاد الوطني القادم للبن، ليتمكن من تصدير محصوله للخارج وتعويض خسائره التي تجاوزت عشرة ملايين ريال (حوالي 18,600 دولار)، حسب ما ذكره لمنصة "يمن بلاتفورم."
قبل خمسة أعوام، نجح جميل في تهدئة حدة السباق المحموم بين مزارعي منطقته على زراعة شجرة القات، التي توسعت رقعتها خلال سنوات الحرب التي اندلعت أواخر عام 2014، وقاد تحولًا فريدًا بزراعة 700 شجرة بن عديني تحت ظلال بيوت محمية. هذه الخطوة شجعت مزارعين آخرين في قرى العزلة والمديريات المجاورة على توسيع زراعة أشجار البن والسعي لاستعادة مكانتها التاريخية من جديد، بعد سنوات من التراجع بفعل الحرب والتغير المناخي، وسط آمال يمنية كبيرة بتعزيز حضور البن اليمني في الأسواق العربية والعالمية كعلامة مميزة مرتبطة باسم اليمن.
بدأ جميل العام الماضي بجني أول عشرة كيلوغرامات من محصوله، وبادر بفحصها لتحصل على نسبة 87% في جودة التذوق خلال المزاد الوطني الثاني للبن اليمني. استطاع جميل من خلال مبادرته بناء نافذة أمل، عكست تمسكه بالتراث الثقافي والاقتصادي الذي يمثله البن بالنسبة له ولكل يمني.

وبالرغم من أن البن محصول نقدي، يؤمن جميل أن إحياء زراعته يجسد قصة التاريخ العريق للبن اليمني الشهير، الذي كان يُصدّر إلى مختلف دول العالم عبر ميناء المخا الذي عاش أزهى عصوره في الماضي.
ومع ذلك، يقر جميل بأن التحدي الأكبر الذي واجهه في زراعة البن لأول مرة خلال سنوات الحرب تمثل في انعدام الديزل اللازم لضخ المياه الجوفية، إلا أنه تغلب على ذلك بحفر بئر ارتوازية بالتعاون مع أبناء منطقته وتركيب منظومة طاقة شمسية، ليضمن بذلك حصوله على مياه مستدامة لري أشجار البن.
ويرى جميل أن نقص المياه وتعرض شجرة البن لأشعة الشمس المباشرة يؤثران سلبًا على جودة الإنتاج، ولذلك تحتاج إلى بيوت محمية أو أشجار كبيرة تزرع تحتها. ويؤكد أن معظم المزارعين اليوم لا يلمّون بطرق زراعة البن الصحيحة كما كان يفعل المزارعون القدماء.
كما يحذر جميل من خطورة جهل المزارعين بطرق الحصاد والتجفيف والتخزين والتسويق السليمة، مما يؤدي إلى تلف المحصول وعدم تحقيق العائد المالي المنشود.
مساحة البن في عمران
يُعد البن من أهم المحاصيل التي تُزرع في محافظة عمران عبر التاريخ، إلى جانب الشعير، القمح، الذرة بأنواعها، الحلبة، العدس، البقوليات، الخضروات والفواكه وعلى رأسها العنب والتفاح الرمان والطماطم والبطاطس والخيار والبسباس والجزر والثوم والبصل، بحسب المزارعين.
وتبلغ المساحة المزروعة بالبن في محافظة عمران نحو 143 هكتاراً، ويصل عدد أشجار البن إلى 557,275 شجرة، وتقدر الإنتاجية بمليون و114 ألفاً و550 كيلوغراماً، بمعدل 2 كيلو للشجرة، وهي إنتاجية متدنية، بحسب المهندس ناجي سلامة، مدير مكتب الزراعة والري بالمحافظة. وأضاف أن المكتب وزع خلال العامين الماضيين أكثر من 20 ألف شتلة بن، وأشار إلى أن المديريات الجديدة التي زُرع فيها البن لأول مرة هي: العشة والقفلة وصوير.
وبالرغم من انتشار زراعة البن في عدة مديريات بالمحافظة منها عمران (عزلة الأشموَر)، ذيبين (عزلة مرهبة)، مسور، السودة، ثلا، جبل عيال يزيد، وشهارة، إلا أن أكثر المديريات زراعة للبن هي مسور، السودة، وثلا، في حين توسعت زراعته بشكل كبير في مسور والسود وعزلة الأشموَر بمديرية عمران، حسب سلامة.
ويقدر متوسط إنتاج الهكتار الواحد من البن اليمني بنحو 0.57 طن، بحسب دراسة حديثة أعدتها مؤسسة "رواد"، وهي إنتاجية متدنية مقارنة مع ماليزيا التي بلغ إنتاج الهكتار الواحد فيها 3.7 طن، والبرازيل 1.9 طن.
وتقع المحافظة ضمن إقليم المرتفعات الجبلية الذي يشكل حوالي 44% من المساحة الزراعية في اليمن، ويعمل فيه 61% من قوة العمل الزراعية.
متطلبات البن عالي الجودة
تزرع شجرة البن على ارتفاع بين 800 و2000 متر فوق سطح البحر، ومحافظة عمران تعد من المناطق الملائمة لزراعته، شأنها شأن جبال صنعاء وتعز وإب وذمار وصعدة والحديدة وحجة والمحويت، وفقًا للمهندس الزراعي شوقي هديش.
وأوضح هديش أن شجرة البن تحتاج من أربع إلى خمس سنوات حتى تبدأ بالإنتاج، ما يتطلب من المزارع توفير رأس مال كافٍ خلال تلك الفترة. وأضاف: البن شجرة شبه ظلّية، تحتاج لأن تُزرع تحت أشجار كبيرة لكي تعطي إنتاجًا عالي الجودة، كما تحتاج درجات حرارة بين 20 و27 درجة مئوية، ما يجعل المرتفعات الجبلية والأودية أو المدرجات ذات التربة الخصبة أفضل بيئة لها.
وبيّن هديش أن التربة المناسبة لإنتاج بن عالي الجودة يجب أن يتراوح الرقم الهيدروجيني (pH) فيها بين 6 و7، إلا أن معظم الأراضي اليمنية يتجاوز فيها الرقم الهيدروجيني 7 وقد يصل إلى 8 أو 9، ما يؤثر على جودة البن. ونصح المزارعين بضرورة انتظار نضج ثمار البن وتحولها إلى اللون الأحمر قبل جنيها، فالجني المبكر يؤثر سلبًا على الجودة. كما أكد على ضرورة جني الثمار الناضجة فقط خاصة عند وجود مساحات زراعية كبيرة.
وأشار إلى أنه إذا زُرعت شجرة البن بطريقة سليمة وحصلت على التغذية والرعاية الملائمة، يمكن أن تنتج حتى 40 كيلوغراماً سنويًا، أما في حال نقصت هذه العوامل فيتراجع الإنتاج إلى ما بين 5 و10 كيلوغرامات فقط. وأوضح أن الدول الأخرى تتفوق على اليمن في إنتاج البن بفضل اهتمامها بالتغذية، والري، والظل، والتسميد المناسب.
تنمية وتضامن
تسهم مبادرات إحياء زراعة البن في عمران، إلى جانب التوسع في زراعة المحاصيل الأخرى، في تعزيز التعاون والتماسك الاجتماعي بين أبناء المحافظة ذات الطابع القبلي، والحفاظ على الأعراف والتضامن الاجتماعي، حسبما أكده الأكاديمي الدكتور صريح القاز.
وأشار القاز إلى أن الزراعة تُعد مصدر الدخل الرئيسي لغالبية سكان المحافظة، وتسهم في دفع عجلة النمو الاقتصادي والاجتماعي، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، والاستقرار السكاني من خلال الحد من الهجرة الداخلية والخارجية، إضافة إلى مساهمتها في الحفاظ على التراث الزراعي المرتبط بالحضارة اليمنية والتنوع الثقافي والمناخي عبر التاريخ.
وأكد أن الزراعة تُعد عماد الاقتصاد الوطني والريفي، وأحد أهم القطاعات التي يعتمد عليها أكثر من نصف سكان اليمن بشكل عام، ومعظم أبناء عمران بشكل خاص، لدورها في تحسين الدخل ودعم سبل العيش والتخفيف من الفقر والبطالة وتوفير فرص عمل مستدامة.
خطوة للاعتراف بالبُن اليمني
في خطوة جوهرية على طريق الاعتراف بالبُن اليمني كرمز ثقافي واقتصادي، سلّمت الحكومة اليمنية المعترف بها، أواخر مارس الماضي، ملف البن اليمني إلى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، تمهيداً لإدراجه ضمن قائمة التراث العالمي، حسب ما ذكره الدكتور محمد جميح، مندوب اليمن الدائم لدى المنظمة.
يشمل الملف المعارف والممارسات المرتبطة بزراعة البن بعد تغطية معظم الجغرافيا اليمنية، ويعد البن إرثاً يمتد لقرون، ولعب دوراً أساسياً في تاريخ القهوة عالميًا، وكانت موانئ اليمن، وعلى رأسها ميناء المخا، نقطة انطلاق البن إلى مختلف أنحاء العالم.
تاريخ زراعة البن وأصله
يُعتبر اليمن موطن البن الأصلي، حسب أول دراسة أكاديمية يمنية عن البن أعدتها الباحثة أروى الخطابي. وتحتل شجرة البن مكانة كبيرة لدى اليمنيين الذين تميزوا بزراعتها منذ القدم، حتى أصبح البن اليمني من أهم المنتجات الزراعية التي غزت أسواق العالم، واكتسب شهرة واسعة بسبب مذاقه الفريد وتنوع نكهاته حسب مناطق زراعته.
ورغم انتشار زراعة البن في اليمن منذ القرن التاسع الهجري (الخامس عشر الميلادي)، إلا أن ما كان يُعرف بـ"اليمن الأعلى" لم يعرف البن إلا بعد النصف الثاني من القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي)، وفق دراسة حديثة أعدها الدكتور عبد الودود مقشر.
وفي القرن العاشر الهجري، غطت زراعة البن معظم جبال اليمن، وظلت اليمن حتى نهاية القرن السابع عشر المصدر الوحيد للبن في العالم، مما فتح آفاقاً جديدة للتجارة اليمنية على مستوى العالم. وشارك كثير من اليمنيين في مختلف جوانب هذه التجارة، من الزراعة إلى الحصاد والتجارة، وحتى النخب الحاكمة المحلية والعثمانية ساهمت في هذا القطاع، لتصبح اليمن في القرنين السادس والسابع عشر الميلاديين الدولة الوحيدة التي احتكرت تجارة البن وعاشت أزهى عصورها الحديثة.
وأثبتت دراسات أخرى أن اليمن واحد من المواطن الأصلية لشجرة البن منذ القدم، إلا أن الشجرة كعنصر بيولوجي تعود أيضاً إلى البيئتين اليمنية والإثيوبية، حيث كانتا في الأصل نطاقًا جغرافيًا واحدًا قبل الفصل القاري، فضلاً عن التشابه في الغطاء النباتي والظروف المناخية.
وجدت شجرة البن في اليمن وشرق إفريقيا ضمن حدود مملكة سبأ، ما يجعلها جزءًا أصيلًا من التراث اليمني. واستخدم البن في اليمن منذ مئات السنين، وكان يمثل عملة محلية عابرة للحدود، وعرف العالم اليمن كموطن أول لأجود أنواع البن الذي صدر عبر ميناء المخا على البحر الأحمر إلى مختلف أنحاء العالم.