شيلان وأكوات وازدحام شديد ودوشة الأسواق اليمنية وروائح معطّرة تغمر بداية شارع العشرين تقاطع فيصل في القاهرة.
هناك حيث يحطّ اليمنيون رحالهم، أو كما يناديهم المصريون: "يا بو اليمن"، وحيث المشاكل وأطول شوارع الجيزة المؤدي إلى هرم خوفو العملاق.
الهرم الأكبر على مرمى بصر عبر الشوارع الثلاثة المؤدية إليه بالتوازي: فيصل ـ الهرم ـ ترسا. وبإمكان المقيمين في النصف الأخير من شارع الملك فيصل الذهاب إلى مجمّع الأهرامات مشيًا على الأقدام، كما يفعل ناجي سعيد، الذي بات أحد الأدلاء والمرشدين للواصلين من البلاد اليمنية الراغبين في زيارة الأهرام.
وناجي سعيد من الحجرية، يقيم في القاهرة منذ ربع قرن، ويعتقد أنه أحد الحاذقين الذين يفسرون للواصلين الكثير من الأمور المبهمة داخل مصر: الترجمة، حجز السكن، والذهاب بهم إلى عيادات خاصة، ثم إنه ـ كما يقول ـ يُجنبهم مصائد الأشرار.
لا أدري لماذا تخيلته على هيئة سعيد إبليس، المناضل الشهير الذي ألقى بالقنبلة إلى حضن الإمام أحمد في السخنة نهاية الخمسينات في عملية فدائية لم تنجح.
قصير، نشيط، مولعي شاهي، وتلفونه لا يتوقف عن الرنين.
يُعتبر ناجي سعيد ـ ومثله كثير ـ من الشخصيات التي يستعين بها هواة التفسح السياحي كمرشد لبيب يعرف الكثير عن الهرم، ويحفظ أشياء غير متماسكة من خرابيط وأساطير الميثولوجيا الفرعونية القديمة، إضافة إلى بعض قصص مجتزأة من القرآن عن موسى وفرعون.
يحكي بطريقة أبناء حواري مدينة تعز القديمة: سريعًا، ومن خلال السرد الشفاهي لناجي سعيد تدرك وجوبًا أن مهنته تقتضي الكثير من المبالغات الشيقة كي يعيش: "ها وكيف!"، يقول ناجي.

ازدهار المكان
كافيهات بداية العشرين، قبل سبع سنوات، كانت عبارة عن جُزر متفرقة في رحاب تلك المساحة الواسعة، واليوم صارت متصلة ببعضها وأكثر زحمة: مكان يضج بالحيوية وباعة متنقلون وبطاط وعربيات تبيع التين الشوكي، وروائح قشر البن المشهف تنقل الذهن والبدن معًا إلى ساحات باب اليمن (صنعاء القديمة).
وعندما تدخل الأزقة والشوارع الفرعية فأنت في كريتر أو الشيخ عثمان، ومجمّع المطاعم حول مخبازة البهنساء: حلويات القباطي ومطعم الشجرة وخبز الطاوة وأفران تعج بالروتي وعمال العصيد والشاي العدني وأسماك شواطئ عدن وبيت الشواية ولوحة واسعة معلقة على الواجهة: "المفلحي".. لا ندري لماذا!
هكذا هي اليمن في شارع فيصل: الغالبية من يافع والضالع وصنعاء وأهل نهم وأرحب وريمة وحراز والحيمتين، مقتبعين بالشيلان الهمدانية، وبعضهم مدججون بالأكوات في عزّ الصيف كجزء من لوازم شخصية اليمني وهيئته.
وبحكم الأسبقية والتواجد هناك، فإن ليافع السَّبق والمعرفة، وهم لا يفرقون بين شمال وجنوب إلا إذا حضرت السياسة فقط. لكن عندما يتعرض أي يمني لعملية نصب أو اعتداء، يشتط اليافعي غضبًا، ويكون في صدارة المدافعين عن ابن الوطن، وبالمثل سائر اليمنيين.
قبل شهرين، تعرّض رجل في الخمسين من عمره من نهم لموقف مؤسف.. كان قد وصل للتو لعلاج أمه، ونُصب عليه من صاحب تاكسي بطريقة احتيالية بمبلغ يفوق 3000 دولار. وبالصدفة، وجده أحد رجال يافع، وأطلعه على القضية، فتنهد اليافعي قهرًا وهو ينظر إلى وجه ذلك الفلاح الأصيل وإلى العجوز المكلومة إلى جواره، وأخذه إلى السفارة. وهناك تم تقديم بلاغ.
لدى اليافعي معارف كبار في السفارة، وأخذ يتابع بنفسه كل يوم، حيث باشرت الشرطة المصرية التحريات، ومن خلال الكاميرات تم الوصول إلى السيارة ومرتكب الجريمة، وعادت نقود الرجل (النهمي).
يقال إن وجود جوقة الحركة التجارية اليمنية النشطة في بداية شارع العشرين تأسس عبر امرأة من عدن، كانت تملك حانوتًا، وتصنع على الصاج خبز طاوة وخمير وشاي حليب. ثم انتقلت ملكية المكان إلى مستثمر من تعز، فوسّع الحانوت إلى مطعم "الشجرة" الشهير بتفريعاته، ومع نجاح الاستثمار صارت "الشجرة" علامة ومكان علم.. واليوم، المكان والعشرين على امتداده يعجّ بمئات المحلات التجارية بأنواعها.
زرت المكان هذا الأسبوع، ووجدت أربعة يلعبون الضومنة وسط زحمة مقاعد الكافيهات والشيش: واحد من ردفان، وآخر من حجة، واثنان من المناهيل ـ المهرة.

موجات اليمانيين.. وعندما عبروا النهر
يعشق اليمنيون الجيزة منذ القدم. لكن هناك ارتباطًا روحيًا وثيقًا بالمكان، ومتصلاً عبر حقب التاريخ. والتواجد اليمني في الجيزة قديم لا يزال متسلسلًا إلى اليوم.
هل للأمر علاقة بعبور جيش الفاتحين اليمانية للنهر بقيادة معاوية بن حديج السكوني، واجتياز الماء مخالفين بذلك تعليمات الخليفة؟
تقول الرواية إن عمر بن الخطاب أوصى عمرو بن العاص، القائد العام لفتوحات مصر، أن يصل إلى النهر ثم يتوقف، قائلاً: "يا عمرو، لا يفصلن بيني وبينك الماء".
لكن اليمنيين فعلوها.. وعندما وصل الخليفة إلى بيت المقدس بعث إليه عمرو بن العاص كتابًا يخبره أن أرض مصر صارت بحوزة جيوش المسلمين، وجاء فيه: "إن حمير اجتازت النهر"، فرد عليه الخليفة بكلمة واحدة: "أجزهم"!
قال السيوطي: ولذلك سُمّيت الجيزة!
في الجيزة القديمة أحياء كثيرة وشواهد لا تزال ماثلة تشير إلى ذلك الحضور اليمني القديم، حيث مسجد همدان، وأحياء مذحج ومراد. وفي إمبابة يقول العديد من سكانها القدامى إن أصولهم تعود إلى قبيلة عك.. وإمبابة منطقة مشاكل، أو هكذا يُشاع عنها.
هل نزل فيها الغافقي بن حرب العكي (أحد الغوغائيين) وهو المتورط الرئيسي في قتل الخليفة عثمان؟ هم من عك اليمنية، والغافقي منهم، وحتى أن شيخًا كبيرًا من الزرانيق يملك بيتًا بالقرب من ذلك المكان!
تتجلى عظمة مصر وهيبتها في قدرتها على احتمال كل هذه الألوف، وعلى الهضم عبر حقب التاريخ. ودوماً تستضيف مصر كل هذه الحمولات من موجات اللجوء عبر العصور. هي أم الدنيا، وهي الحضن الدافئ لكل العرب: اليمن، السودان، سوريا، ليبيا، فلسطين، وحتى صدام حسين عندما فرّ هاربًا من العراق مطلع الستينات، لجأ إلى مصر وعاش مع عبدالوهاب جباري في غرفة واحدة في الدقي.
الدقي.. المحطة الأولى لليمنيين
على مدى ثمانية عقود تقريبًا، وحي الدقي الشهير محطة الوصول الأولى لليمنيين القادمين من أرض الوطن أو من بلدان المهجر المتفرقة (الدقي يتبع إداريًا محافظة الجيزة).
لا توجد تواريخ وثيقة الصلة بالبدايات الأولى وعلاقة الواصلين بالمكان داخل هذا الحي العريق، الذي يبعد عن وسط القاهرة الخديوية سوى 2 كم.
لكن المتوفر لدينا من خلال أول تمثيل سياسي رسمي يمني في الأربعينات أن السفارة اليمنية وبعثاتها الدبلوماسية تباعًا ينزلون دومًا في حي الدقي، وتحديدًا في ميدان المساحة أو حواليه.
وهناك حيث السفارة اليمنية وبيوت بني الكبسي والمؤيد، أول ممثلي اليمن في جامعة الدول العربية تباعًا، أواخر الأربعينات، كانوا يسكنون في الدقي، وكان محمد محمود الزبيري، والنعمان، وسيف الإسلام إسماعيل نجل الإمام يحيى، ومحمد المتوكل، وحسين المسوري، والغشمي، والحمدي، والرئيس صالح، جميعهم كانوا يسكنون في الدقي، وكان الأربعة الأخيرون يسكنون تحديدًا في شارع إيران في السبعينات ـ الشارع الذي بات اليوم أحد مراكز تجمعات اليمنيين في القاهرة.
أظن أن القاضي عبدالرحمن الإرياني كان يسكن في حي ميدان المساحة أيضًا، لأنه عندما استثناه جمال عبدالناصر من الاعتقال سنة 1966، وأضاف إليه القاضي عبدالسلام صبرة، وحسين الدفعي، بقوا في الدقي تحت الإقامة الجبرية، عدا الإرياني، الذي استأذن عبدالناصر بأن يسمح له بحضور صلاة الجمعة في مسجد قريب، فأعطاه ذلك.
تم الاعتقال من داخل بيت يملكه الأستاذ النعمان يومها من ثلاثة طوابق، كان يسكنه الأستاذ في المساحة بالدقي.
داخل نطاق الدقي، وفي أبرز المعالم على الضفة الغربية للنهر من جهة الجيزة، تنتصب عمارة الجلاء بشموخ طوابقها التي تتجاوز العشرة، مستعرضة النهر والميدان، وموازية في ارتفاعها مبنى الشيراتون وبنك الملك فيصل. وفي رأس هذه البناية (الجلاء)، ظل يقبع الشيخ سنان أبو لحوم تحت الإقامة الجبرية بطلب من عبدالرحمن البيضاني، نائب رئيس مجلس قيادة الثورة بعد 26 سبتمبر بـ 7 أشهر.
مكث الشيخ سنان بضعة أشهر، ولعل المكان أعجبه، فبعد مغادرته قام بشراء شقتين فوق بعض في الأعلى، وكان لا يطيب له المقام إلا هناك، حيث مات فيها قبل أربع سنين.
ومن الحكايات اللطيفة التي ذكرها سنان في مذكراته، أنه ترأس المشايخ إلى القاهرة كأول مهمة سياسية جماعية للمشايخ بعد الثورة إلى مصر، وأنهم مكثوا يومين في ضيافة الحكومة المصرية. وفي اليوم الثالث، التقوا الرئيس جمال عبدالناصر الذي صافحهم واحدًا واحدًا، وقال للشيخ علي بن ناجي القوسي، وكان شيخًا مهيبًا ضخم القامة: "ها يا شيخ، كيف مصر؟"
رد الشيخ القوسي: "انتوا وافيين غير اللحمة قليل". فضحك الرئيس جمال عبدالناصر، وفي اليوم التالي دخلوا صالة الطعام، وأمامهم 26 كبشًا.. كان عدد الوفد بالمناسبة 26 شيخًا.
يملك الشيخ سنان منزلًا أنيقًا وحديقة في ولاية فرجينيا، على مسافة ليست بعيدة من بيت كان يسكنه جورج واشنطن. ومن الطرائف أن الشيخ سنان، في أيامه الأخيرة قبل وفاته، كان في القاهرة وقد أصابه الزهايمر إذ بلغ من العمر عتيًّا، وكان يطلب من الأسرة تحت ضغط حمى المرض أن يأخذوه إلى فرجينيا. فيردّون عليه: "حاضر".
يجهزونه ويأخذونه إلى المصعد، ثم ينزلونه من الشقة العليا إلى الشقة السفلى، ثم يقولون له: "الحمد لله على السلامة.. وصلنا فرجينيا". يهدأ الشيخ، وبعد ساعة يقول: "رجعوني مصر"، فيعمدون إلى الطريقة نفسها، ثم أيضًا يطمئنوه بوصولهم مصر، وهكذا ظلت روح الشيخ سنان متنقلة بين مصر وفرجينيا حتى فاضت إلى بارئها.