تـابعـنـــا
Facebook IconTwittter IconInstagram Icon

"سوق المِلح" الذي احتفظ باسمه وسلم الأقداح لـ" الزبيب واللوز"

"هي عاصمة الروح
أبوابها سبعة
والفراديس
أبوابها سبعة"

كان شاعر اليمن الكبير الراحل عبدالعزيز المقالح أكثر أدباء اليمن ومتكلميها افتتاناً بصنعاء. والحق أن مدينة سام، التي تعد من أقدم الحواضر على وجه الدنيا، لا تزال تبهج القلوب وتمتع الأبصار. فالمدينة، التي تعددت أسماؤها: سام ـ صنعاء ـ آزال، تتميز بخصائص عديدة عن نظيراتها من المدن الموغلة في العراقة. كل طُرق وأزقة صنعاء القديمة تؤدي إلى "سوق المِلح".
تتوزع أحياء مدينة صنعاء التاريخية بشكل مستدير متفاوت المسافات حول السوق الذي يقع في قلبها. وكل حارة على المستوى المعماري تأخذ طابعاً ضمن خصائص هندسية وحضرية مدهشة: التوزيع والطرقات والمساجد والسبيل والبساتين والسماسر والعرصات التي تنفتح على البهو بشكل يجعل مساءات المدينة فريدة وصباحاتها تضج بالحركة والنشاط والتنوع.
تأتي الطرق من جميع الجهات وتلتقي في مركز الدائرة: السوق.

جدل التسمية أم جدل السلع

كان "سوق الملح" من أشهر أسواق العرب، يضاهي في شهرته سوق عكاظ.
لا يزال المكان واسمه علماً يضج حياة داخل مركز الدائرة لمدينة سام بن نوح. كل السلع موجودة ومتنوعة: الزبيب واللوز والبن والحبوب والأقمشة والبهارات وغيرها. والسلعة الوحيدة التي لم تعد قائمة في هذا السوق العتيق هي الملح. لكن اسمه لا يزال صامداً عبر العصور، غير أن مؤرخ اليمن الشهير أبو الحسن الهمداني (القرن الثالث الميلادي) يقول إن أصل التسمية "سوق المُلح" بضم الميم وفتح اللام، وليس بالكسر.
يثق علماء الآثار بروايات الهمداني بنسبة 86 بالمائة وفقاً لعالمة الآثار اليمنية عميدة شعلان. وتصحيحه هنا لأصل التسمية يبدو أكثر دقة نظراً لتثبت هذا المؤرخ من الحقائق والموضوعات التي يرويها.
لكن ذلك لا ينفي أن الملح عبر العصور كان من أجود وأساسيات السلع. وظل الكثير من اليمنيين ـ خصوصاً قبائل المشرق ـ يتاجرون به، حيث كانوا ينقلون عبر قوافل الجمال أقداح الملح من جبل الملح وسط صحراء مأرب (180 كم شرق صنعاء). وكانت صنعاء واحدة من محطات قوافل الملح، التي غالباً ما تفد في فصل الشتاء، ويكون سعره باهظاً في الصيف.
فصل الصيف هو موسم الأمطار في البلاد اليمنية، ولأن الملح من السلع التي يتطلب نقلها أجواءً غير ممطرة، فقد كانت القوافل المحملة بالملح تتحرى مواقيت ذات طقس جاف ومشمس حتى لا تتكبد خسائر فادحة إذا ما اختارت طريق المجازفة وتحركت قوافلهم في الصيف والخريف.
اليمنيون من أكثر الشعوب علماً بمناخ المطر، لأن حياتهم وحضارتهم اعتمدت الزراعة المطرية، وأيضاً لأن التجارة تقتضي الأسفار وقطع المسافات البعيدة، ولا سيما تجارة الملح.
كان المئات من رجال الشرق اليمني (مأرب وبيحان وشبوة والبيضاء) إلى قبل 70 عاماً يتاجرون بالملح. ولأن مناطقهم تقع على أطراف الصحراء قليلة المطر، فقد كانوا ينقلون الملح عبر الجمال إلى المناطق الوسطى من اليمن ومدن القيعان الزراعية كثيرة المطر، ويبادلون الملح بالذرة، حيث تعود القوافل محملة بأقداح الذرة من كل نوع.

كان "سوق الملح" من أشهر أسواق العرب، يضاهي في شهرته سوق عكاظ.

وأيًّا كان "سوق الملح" بكسر الميم أو ضمها كما يرجح أبو الحسن الهمداني، فإن (المُلَح) أيضاً إحدى سمات هذه المدينة الجميلة. فالمُلَح بالضم تعني جمع مليح أو مليحة، وهو لفظ يعني الجمال والروعة ويُستعمل في وصف المحبوب، حيث يقول ابن شرف الدين (شاعر غنائي شهير من أبرز شعراء الحميني في القرن السادس عشر الميلادي):
"صادت فؤادي بالعيون الملاح .... وبالخدود الزاهيات الصحاح"
وفي اليمن، سواء قلت المِلاح أو المُلح، فأنت تقصد الجمع في الحالتين وتعني الروعة والفتنة والجمال.
وصنعاء مدينة جميلة ورائعة ومليحة أيضاً. وقد نعتها الشاعر الكبير الراحل عبدالله البردوني سنة 1971 في مهرجان الموصل بالعراق في الذكرى الألفية لرحيل أبي تمام بقوله:
"ماذا أحدّث عن صنعاء يا أبتي .... مليحةٌ عاشقاها السل والجرب"
كانت صنعاء واليمن يومئذ تعاني من نزاعات ومشاكل وحروب متقطعة، وهذا الوصف يكاد يلازم صنعاء عبر العصور ضمن ثابت معياري يتطابق اليوم مع حالها المثخن بالجراح وفقاً لوصف أديب اليمن البصير عبدالله البردوني.
لقد تعرضت صنعاء بسبب ويلات الحروب والنزاعات للدمار عشرات المرات، لأن قدر هذه المدينة أنها عاصمة بلد عريق، ولكنه متجدد النزاعات.

الزبيب واللوز بدل الملح

في مواسم الأعياد (الفطر والأضحى) تزدهر تجارة الزبيب واللوز باعتبارهما أهم عنصرين في طقوس العيد.
تستقبل العائلات اليمنية ضيوفها بأطباق الحلويات، ولكن الزبيب واللوز يتقدمان على سواهما.
وإذا كان العسل والسمن ثنائيًا يرتبط بالدلالة على التفاهم بين المتقابلين، فإن الزبيب واللوز يرتبطان بالمناسبات الجميلة: الأعياد والأعراس.
رغم اقترانهما في المناسبات، إلا أن زراعتهما تختلف. فاللوز يُزرع في مناطق باردة مثل بني مطر وخولان الطيال، بينما يحتاج العنب إلى مناطق معتدلة مثل بني حشيش وصعدة وعمران.

حالياً، تتوفر كميات كبيرة من الزبيب واللوز في جميع أسواق صنعاء، القديمة والجديدة. وعند التوجه إلى سوق الملح عبر طريق قصر السلاح من الشرق إلى الغرب، تزداد كثافة محلات الزبيب واللوز.

كان سوق الزبيب واللوز قديماً مكاناً خاصاً داخل المدينة، لكنه اليوم انتشر إلى شوارع حديثة مثل شارع خولان وشارع مأرب، حيث تحولت إلى مراكز تجارة جملة. ومع ذلك، لا تزال محلات صنعاء القديمة تحتفظ بتميزها الرمزي والنوعي.

البُن والزنجبيل

عندما زار الرحالة اللبناني أمين الريحاني اليمن في العشرينيات من القرن الماضي، لاحظ أن سكان صنعاء وضواحيها يضيفون "الحوائج" إلى القهوة، وهو مصطلح محلي يشير إلى الزنجبيل.
في اليمن، تُحضر القهوة غالباً باستخدام قشر البن بدلاً من نواته، وتُطهى القشور على جمر الحطب لمنحها نكهة مميزة.

صنعاء القديمة ما تزال تحتفظ بحوانيت لبيع البن والقشر، بعضها مملوك لعائلات عريقة مثل الشوكانيين. ويعود نسبهم إلى القاضي محمد بن علي الشوكاني، أحد قضاة اليمن البارزين في القرن التاسع عشر.

لعب البن دوراً اقتصادياً وسياسياً في اليمن. وتشير بعض الروايات إلى أن اتفاقية انسحاب القوات المصرية من ميناء المخا كانت مشروطة بإرسال كميات من البن إلى محمد علي باشا في القاهرة كهدية سنوية، عرفت بـ"قهوة السلطان".

حتى اليوم، تظل القهوة المصنوعة من قشر البن مع الزنجبيل هدية مفضلة لدى كبار السن في اليمن.

ورغم تغيّر المعروضات وتحوّل طابع السوق، لا يزال "سوق المِلح" في قلب صنعاء القديمة يحتفظ بدلالته التاريخية ومكانته الرمزية. الاسم بقي، لكن الواقع تغيّر، ليعكس مسار مدينة عريقة تتأقلم مع الزمن دون أن تفقد هويتها.