أثناء سيري اليومي في الحافلة استوقفت عيناي منظر شايب يرتجل يوميًا حاملًا على كتفه علبة حلوى، قررت اليوم إيقاف الحافلة وتغيير وجهتي صوبه.
حين اقتربت منه فاجئني صغر سنه، إذ يبدو الآن أصغر مما رأيته، إنها الحرب التي استنزفت أرواح ملايين اليمنيين، وشقت طريقها على ملامحهم فباتوا كهولًا في عمر الشباب.
قائد محسن – 45 عاما – أبُ لـ أحد عشر طفلًا، يعمل بائع متجول مختص ببيع "الطرمبة" الحلوى التي تشتهر بها مدينة تعز. يقول قائد: اخترت بيع الطرمبة لعدم تواجد محلات بيعها في صنعاء، وبحسب قائد فإن هذا يجعل الطلب عليها متزايد.
قائد واحد من ملايين اليمنيين الذين استنزفتهم الحرب، ولم تترك لهم فرصة للحياة، فتشبثوا بأحلامهم عل الغد يكون أفضل.

رحلة البحث عن حياة
بعد استغناء دول الخليج عن العديد من العمالة اليمنية في عام 1990، عقب اجتياح دولة العراق للكويت ورفض الرئيس السابق صالح إدانة هذا الاجتياح، عاد الآلاف من اليمنيين إلى بلادهم، من بينهم قائد العائد من المملكة العربية السعودية، حيث كان يعمل.
ما جمعه قائد في غربته أمكنه من الزواج، ثم بدأ بالبحث عن عمل في بلاده ليعول زوجته ويؤسس لعائلته الصغيرة. عمل بالأجر اليومي كعامل بناء ثم بائع خضرة، وتنقل في أكثر من مدينة يمنية حتى استقر به الحال في العاصمة صنعاء عقب اندلاع الحرب في البلاد بعد سيطرة مليشيا الحوثي على العاصمة صنعاء في الـ21 من سبتمبر 2014.
يقول قائد: "كنتُ أمتلك عربه خضار في الجحملية بمدينة تعز، وحين اندلعت الحرب في المدينة، انتقلت إلى صنعاء بعد أن دلني ابن عمي على بيع الطرمبة وعلمني صناعتها منذ ١١ عام".
كانت الحياة قبل الحرب بالنسبة لقائد أسهل مما هي اليوم، فالبيع المباشر في محل معلوم يجلب الزبائن دون مشقة، كما أن امتلاك الموظفين لرواتب يساعد على اقرإضهم وهو ما يعود على البائع بالنفع نهاية كل شهر، على عكس اليوم فموظفي الدولة في مناطق سيطرة مليشيا الحوثي لا يستلمون رواتبهم منذ نحو ثمان سنوات، وفي مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًا أثقل كاهلهم تدهور العملة وتأخر صرف الرواتب لأشهر.
المعاناة الأزلية
يسكن قائد حي شملان، غربي العاصمة صنعاء، في منزل بسيط استأجره قبل عشر سنوات،
بمبلغ زهيد وصل تكاليف إيجاره اليوم مبلغ 35 ألف ريال ما يعادل 65 دولار أمريكي.
يقول: إذا جلست يوم دون عمل لن تجد أسرتي مكان للمبيت فيه، فمُلاك العقارات لا يقبلون تأخير الإيجار. جّل هم قائد هو توفير مبلغ إيجار المنزل الذي يسكنه، ولا يكون ذلك إلا بعد اليوم العشرين في الشهر، فدخله المحدود بالكاد يكفي متطلبات الإيجار وتكلفة إعداد الحلوى، التي يعود أيام بأعداد كبيرة منها، فيجود على جيرانه بها.
السلوك اليومي
من غرب صنعاء حتى جنوبها يقطع قائد يومياً مسافة 15 كم، سيراً على الأقدام، تبدأ رحلته اليومية في السادسة والنصف صباحا من حي شملان مروراً بعدة شوارع حتى يصل إلى شارع الخمسين، ليستقر جوار إحدى الجامعات الأهلية، حيث ينتظره هناك زبائن ويعود إلى منزله في الثالثة عصرا ليبدأ إعداد الطرمبة لليوم التالي.
يقول: أنا مصاب بمرض السكري ولا أستطيع الانتظام بشراء العلاج فاضطر إلى المشي مسافات كثيرة وتجنب تناول السكريات، فعلى الرغم من إعدادي اليومي للحلوى لكن لا أتذوقها.
تُعد هذه الحلوى من الدقيق الأبيض والملح والماء والبيض، وبعد عجنها تُقلى بالزيت الساخن ويتم إخراجها إلى القطر " الشيرة"، وهي مكونات يتجنبها مريض السكري لاستقرار نسبة السكر في الدم.
يصنع كل يوم مقدار من ٣ إلى ٤ كيلو، يجوب بها شوارع العاصمة، يسير مسافات طويلة فهي البديل عن العلاج، ويعد هذه الطريقة أفضل من البقاء في مكان واحد، إذ يتطلب دفع رسوم غير رسمية في حال بقاءه في مكان واحد، تفرضها مليشيا الحوثي على الباعة، فضلًا عن وصوله إلى شريحة أكبر من الناس.

فقرُ ينهش الأسرة
لا راحة لقائد فهو يكابد الحياة مع أبناءه، ليستطيع الالتزام بدفع الايجار الشهري دون تأخير، حتى لا تتراكم عليهم الإيجارات من جهة، ولا يضطر صاحب العقار إلى طردهم من جهة أخرى، فمن بين 11 من الابناء استطاع قائد تعليم اثنين منهم فقط، أما الآخرون فلجأوا إلى البحث عن أعمال لمساعدة والدهم في الاكتفاء بأنفسهم.
تحدثت إلينا زوجته عن معاناتها مع وسائل منع الحمل التي فشلت كلها في ايقاف حملها المتكرر فأنجبت 11 طفلا، ولن يتوقف ذلك إلا بعد إجرائها عملية "ربط البوق" وهو ما لا تستطيع عليه الأسرة.
والابن الأكبر له محمد وهو شاب في مطلع العشرينيات، كان يعمل لدى مصنع تطريز فاغلق المصنع أبوابه أمام عدد كبير من الموظفين، من بينهم محمد الذي أصبح الآن بدون دخل ثابت، ويعمل على بيع البطاط المقلية على عربة بالقرب من منزله، ويأمل في حصوله على فيزا لمغادرة البلاد.