تـابعـنـــا
Facebook IconTwittter IconInstagram Icon

صانع الحلوى الذي لا يتناولها!

أثناء رحلتي اليومية في الحافلة، لفت انتباهي منظر رجل مسن يحمل على كتفه علبة حلوى، يبيعها يوميًا بعفوية. قررت اليوم أن أنزل من الحافلة وأغير وجهتي نحوه. وعندما اقتربت منه، فوجئت بصغر سنه مقارنة بما توقعت؛ إذ بدا أصغر مما تخيلت. الحرب التي استنزفت أرواح ملايين اليمنيين، تركت آثارها على ملامحهم، فبدا بعضهم كهول في عمر الشباب.

قائد محسن، 45 عامًا، أب لأحد عشر طفلًا، يعمل بائعًا متجولًا متخصصًا في بيع "الطرمبة"، الحلوى الشهيرة في مدينة تعز. يقول قائد: "اخترت بيع الطرمبة لأن محلات بيعها نادرة في صنعاء، مما يجعل الطلب عليها متزايدًا."

قائد هو واحد من ملايين اليمنيين الذين استنزفتهم الحرب، ولم تترك لهم فرصًا كثيرة للحياة، لكنهم تمسكوا بأحلامهم على أمل غدٍ أفضل.

رحلة البحث عن حياة

بعد أن استغنت دول الخليج عن كثير من العمالة اليمنية في عام 1990، عقب اجتياح العراق للكويت ورفض الرئيس السابق صالح إدانة هذا الاجتياح، عاد الآلاف من اليمنيين إلى وطنهم، من بينهم قائد، العائد من المملكة العربية السعودية حيث كان يعمل.

جمع قائد ما تمكن من توفيره في الغربة ليؤسس حياته، فتزوج وبدأ يبحث عن عمل في بلاده يعول به زوجته ويؤسس عائلته الصغيرة.

عمل بالأجر اليومي كعامل بناء، ثم بائع خضرة، وتنقل بين مدن يمنية عدة حتى استقر في العاصمة صنعاء بعد اندلاع الحرب وسيطرة مليشيا الحوثي على المدينة في 21 سبتمبر 2014.

يقول قائد: "كنت أمتلك عربة خضار في حي الجحملية بمدينة تعز، وعندما اندلعت الحرب هناك انتقلت إلى صنعاء بعد أن دلني ابن عمي على بيع الطرمبة وعلمّني صناعتها قبل 11 عامًا."

كانت الحياة قبل الحرب أسهل بالنسبة لقائد؛ فالبيع المباشر في محل معروف يجذب الزبائن بسهولة، وموظفو الدولة يتلقون رواتبهم التي تدعم قدرتهم على الشراء، مما يعود بالنفع على البائع. أما اليوم، فموظفو الدولة في مناطق سيطرة الحوثيين لم يتلقوا رواتبهم منذ نحو ثماني سنوات، وفي مناطق الحكومة المعترف بها دوليًا يعاني الموظفون من تدهور العملة وتأخر صرف الرواتب لأشهر.

المعاناة المستمرة

يقطن قائد في حي شملان، غرب صنعاء، في منزل بسيط استأجره منذ عشر سنوات، حيث يبلغ إيجاره اليوم 35 ألف ريال يمني، ما يعادل حوالي 65 دولارًا أمريكيًا.

يقول: "إذا لم أعمل يومًا، لن أجد مع أسرتي مكانًا للمبيت، فملاك العقارات لا يتسامحون مع تأخير الإيجار." هم قائد الأكبر هو توفير إيجار المنزل، ولا يتحقق ذلك إلا بعد العشرين من كل شهر، إذ يكاد دخله المحدود يقتصر على تغطية الإيجار وتكاليف إعداد الحلوى التي يوزع جزءًا منها على جيرانه.

روتين يومي

يقطع قائد يوميًا مسافة 15 كيلومترًا سيرًا على الأقدام، بدءًا من حي شملان في السادسة والنصف صباحًا، مرورًا بشوارع متعددة حتى يصل إلى شارع الخمسين، حيث يستقر بالقرب من إحدى الجامعات الخاصة، فينتظره هناك زبائن كثيرون، ثم يعود إلى منزله عند الثالثة عصرًا ليبدأ إعداد الطرمبة لليوم التالي.

يقول: "أنا مصاب بمرض السكري ولا أستطيع الالتزام بشراء الدواء، فأضطر للمشي كثيرًا وتجنب تناول السكريات. ورغم أنني أعد الحلوى يوميًا، إلا أنني لا أتناولها."

تُصنع الطرمبة من الدقيق الأبيض والملح والماء والبيض، وعند العجن تُقلى في الزيت الساخن ثم تُغمس في القطر (الشيرة)، وهي مكونات يحذر مريض السكري من تناولها للحفاظ على استقرار نسبة السكر في الدم.

يصنع قائد يوميًا من 3 إلى 4 كيلوغرامات، يتجول بها في شوارع العاصمة، يمشي مسافات طويلة، فالتحرك بديل عن العلاج، ويؤكد أن هذه الطريقة أفضل من البقاء في مكان واحد، إذ تفرض مليشيا الحوثي على الباعة رسومًا غير رسمية مقابل الاستقرار في مكان معين، إضافة إلى أنها تتيح له الوصول إلى شريحة أوسع من الناس.

فقرُ ينهش الأسرة

لا راحة لقائد فهو يكابد الحياة مع أبناءه، ليستطيع الالتزام بدفع الايجار الشهري دون تأخير، حتى لا تتراكم عليهم الإيجارات من جهة، ولا يضطر صاحب العقار إلى طردهم من جهة أخرى، فمن بين 11 من الابناء استطاع قائد تعليم اثنين منهم فقط، أما الآخرون فلجأوا إلى البحث عن أعمال لمساعدة والدهم في الاكتفاء بأنفسهم.

تحدثت إلينا زوجته عن معاناتها مع وسائل منع الحمل التي فشلت كلها في ايقاف حملها المتكرر فأنجبت 11 طفلا، ولن يتوقف ذلك إلا بعد إجرائها عملية "ربط البوق" وهو ما لا تستطيع عليه الأسرة.
والابن الأكبر له محمد وهو شاب في مطلع العشرينيات، كان يعمل لدى مصنع تطريز فاغلق المصنع أبوابه أمام عدد كبير من الموظفين، من بينهم محمد الذي أصبح الآن بدون دخل ثابت، ويعمل على بيع البطاط المقلية على عربة بالقرب من منزله، ويأمل في حصوله على فيزا لمغادرة البلاد.