لم تكن سميرة القباطي يومًا فتاة عادية؛ فمنذ طفولتها في مدينة تعز كانت تنجذب إلى كل ما هو قديم، تقف أمام الجدران العتيقة بدهشة، وتتأمل الحجارة التي تروي حكايات الماضي. هناك، بين المتاحف والمباني القديمة، وُلد شغفها بالآثار، دون أن تدري أن هذا الشغف سيقودها لاحقًا إلى مواجهةٍ طويلة مع التقاليد ونظرة المجتمع.
تقول سميرة وهي تبتسم: "كنت أحب الأشياء القديمة، الطراز المعماري العتيق كان يلفت انتباهي دائمًا. ربما بدأت حكايتي مع الآثار منذ تلك اللحظات الصغيرة."
كبرت الطفلة اليتيمة في بيتٍ بسيط فقدت فيه أمها مبكرًا، فتولت أختها الكبرى تربيتها، لتكون العائلة الصغيرة عالمها الأول الذي علّمها الصبر والإصرار.
وحين حان وقت اختيار التخصص الجامعي، لم تتجه سميرة إلى الطب كما أرادت شقيقتها، ولا إلى التدريس كما فعلت بنات جيرانها، بل اختارت طريقًا بدا للجميع غريبًا و"لا يليق بالبنات": دراسة الآثار.

قرار جريء: "لن أكون معلمة"
في تلك الفترة، كانت الخيارات أمام الفتيات محدودة جدًا. معظم بنات المدينة، سواء من العائلة أو الجيران، يلتحقن بكلية التربية ليصبحن معلمات، وهو المسار الأكثر قبولًا اجتماعيًا. لكن سميرة كانت مختلفة.
تقول: "كنت أشعر أن التدريس لا يعبر عني. كنت أبحث عن شيء أعمق، عن تاريخٍ نقرأه في الحجارة لا في الكتب."
وعندما قررت أن تكسر القاعدة وتغادر إلى العاصمة صنعاء لإكمال دراستها الجامعية، واجهت الرفض من إخوتها الذين لم يتقبلوا فكرة أن تسافر أول فتاة من العائلة وحدها.
تروي سميرة: "أبي لم يمانع، لكنه ترك القرار لإخوتي، فرفضوا تمامًا. في النهاية، اقترح أحدهم أن أسجل في جامعة صنعاء (انتساب) بقسم التاريخ، وأعود قبل الامتحانات فقط. وافقت، وكنت أظن أنني تنازلت... لكن القدر كان يخبئ لي مسارًا آخر."
"لأنني امرأة... قالوا إن دراسة الآثار ممنوعة عليّ"
خلال إحدى المحاضرات، اكتشفت سميرة بالصدفة أن هناك قسمًا للآثار في الجامعة.
"شعرت أنني وجدت نفسي. في اليوم التالي، ذهبت إلى شؤون الطلاب وغيرت تخصصي فورًا، من التاريخ إلى الآثار، ومن الانتساب إلى الانتظام."
ومن هنا بدأت رحلة التحديات.
"واجهت اعتراضات شديدة؛ قالوا لي: كيف ستدرسين في صنعاء؟ وأين ستقيمين؟ وسكن الطالبات مرفوض تمامًا. ثم قالوا إن دراسة الآثار لا تصلح للبنات لأنها تتطلب رحلات ميدانية ونزولًا إلى المواقع، وهو عمل 'رجالي' في نظرهم، وإنها دراسة لا تليق بالبنات."
لكن شيئًا لم يوقفها. تقول سميرة: "كنت، كما يقول المصريون، ضاربة عرض الحيط بأي كلام يُقال. ذهبت إلى محاضراتي وعملت أبحاثي بشغف، لأنني وجدت ضالتي. أنا من النوع الذي إذا اقتنع بشيء يفعله، حتى لو الدنيا كلها رفضته."
لم تكن الصعوبات اجتماعية فقط، بل مادية أيضًا؛ فدراسة الآثار تعني رحلات وأبحاثًا ومصاريف ميدانية. لم تكن تريد أن تُثقل على أحد، فبدأت تبيع قطعًا من ذهبها لتواصل دراستها.
تقول سميرة: "دراسة الآثار مكلفة، فيها رحلات وتقارير وطباعة. لم أطلب من أحد مساعدة مادية، كنت أبيع جزءًا من ذهبي لأواصل دراستي، لأني اخترت هذا المجال بإرادتي، وكنت مستعدة لتحمّل التبعات."
وتضيف: "كنت أقول لنفسي: اخترت هذا الطريق، وعليّ أن أتحمل تبعاته."

امرأة في حقل الرجال
بعد التخرج، بدأت سميرة عملها كأخصائية آثار، وكانت المرأة الوحيدة في مكتبها. لم تكن المهنة سهلة، لا من حيث الجهد ولا من حيث النظرة الاجتماعية.
"واجهت تنمّرًا واتهامات بالجنون، قالوا عني مسترجلة، وأن هذا العمل لا يناسب النساء، لكنني لم أتأثر. كنت أؤمن أن المرأة قادرة على أن تعمل في أي مجال يُوكل إليها."
شعرت سميرة أنها حققت إنجازًا فعليًا عندما بدأت مشروع ترميم قلعة تاريخية. تقول: "أول لحظة انتصار شعرت بها كانت أثناء مشروع ترميم قلعة تعز، عندما قال لي المدير: هل تشتغلين في القلعة؟ قلت له نعم. اعترض بعض الزملاء: هي بنت! والموقع عسكري. لكنني ذهبت، وصنّفت ورمّمت قطع الفخار بنفسي. شعرت وقتها أنني كسرت الصورة النمطية."
كانت تلك التجربة نقطة تحول، إذ أصبحت الأخصائية الوحيدة في مكتب الآثار، تعمل بين زملاء رجال دون أن تدع نظرة المجتمع تثنيها.
"لم أتأثر بالتنمر، أنا مؤمنة أن المرأة قادرة على إنجاز أي عمل يُوكل إليها."
ورغم أنها تصف إنجازها بالمتواضع، ترى أن الطريق لا يزال طويلًا.
"لم أحقق بعد ربع ما أطمح إليه، لأن الواقع يسيطر عليه الفساد والمحسوبية، لكنني مستمرة. شاركت في العديد من الأعمال الميدانية، واليوم أنا المرأة الوحيدة في هذا المجال على مستوى المكتب."

اليوم، تغيرت نظرة المجتمع قليلًا.
"لم أعد أواجه تمييزًا، بالعكس، أحظى باحترام كبير. المجتمع بدأ يتقبل المرأة في مجالات لم تكن يومًا لها، حتى في الأعمال التجارية."
توجه سميرة رسالتها للأسر التي تمنع بناتها من دراسة تخصصات غير تقليدية، فتقول:
"لا تحرموا بناتكم من أحلامهن. اجلسوا معهن، اسمعوا رأيهن، شجعوهن على التعليم الذي لم تنالوه أنتم. لا تُجبروهن على تخصص لا يرغبن فيه، لأن من لا يحب ما يدرس لن ينجح فيه."
ولو عاد بها الزمن، تقول سميرة: "سأختار نفس الطريق، رغم الصعوبات، لأن حبي للآثار لا يوصف."
تحلم سميرة اليوم أن ترى كل المعالم الأثرية في تعز مرممة ومفتوحة أمام الزوار، وأن تكبر أجيال جديدة تحمل الوعي بأهمية تراثهم.
"أريد أن تصبح المرأة اليمنية في كل المجالات متقدمة ومشرّفة لبلادها. أما أنا، فأصف نفسي بكلمتين: صبورة ومثابرة."

