تـابعـنـــا
Facebook IconTwittter IconInstagram Icon

سامية ووداد: مفاتيح الصمود في زمن تراجع المساعدات

سامية القيري ووداد خالد، امرأتان تعيشان في مناطق نائية في ريف صنعاء وإب. أدركت كل منهما حاجة السكان إلى أصناف من المحاصيل لا تتوفر في منطقتهما، الأمر الذي يضطرّهم إلى قطع مسافات طويلة إلى المدينة لشرائها.

تحكي "سامية" أنها بدأت بتوفير بذور المحاصيل للمزارعين، وخاصة للنساء، بعد مرض ابنتها. "كدت أفقد ابنتي بسبب سوء التغذية. نفتقد وجود الخضار والفاكهة في حين ينشغل الجميع بزراعة القات. لذلك سافرت إلى المدينة واشتريت البذور، وضعتها في أكياس صغيرة ووزعتها على الجيران". ولمن لا يملك خبرة في الزراعة، تعاونت سامية مع مرشد زراعي لتقديم ما يلزم من تعليم وإرشاد.

تشكو وداد ندرة الأمطار وقلة المعدات الزراعية المناسبة، لكنها تشكو أكثر تجاهل دعم المشاريع في المناطق الريفية

تضيف: "اجتمعت بعدد من نساء القرية، شرحت لهن ضرورة حصول أجسامنا على حاجتها اليومية من الخضار المغذية. كان تجاوبهن سريعًا، بدأن بالزراعة في باحات البيوت وعلى أسطح المنازل، كان حلمهن: وجود الطماطم على موائدهن اليومية."
وبحسب سامية فإن النساء اليوم بتن يأكلن مما يزرعن. "إحدى النساء قالت لي إنها استخدمت المال الذي كانت تخصصه لشراء الخضار في توفير المستلزمات المدرسية لأطفالها".

تطمح "سامية" إلى إنشاء صندوق خيري تخصص فيه جزءًا من عائدات بيع البذور لتمويل إصلاحات أخرى. "هدفي توفير ما يكفي من المال لترميم سدود القرية التي لو أعيد إصلاحها لوفرت ما يلزم من المياه للزراعة وسقي الحيوانات على مدار العام".
طوال أربعة أعوام، ظلّت "سامية" تدير مشروعها من منزلها. قبل أيام أخبرتني بفخر أنها تستعد لفتح متجر لبيع البذور.

"وداد"، لاحظت هي أيضًا أن أصنافًا بعينها من الخضراوات والبقوليات لا تُزرع في منطقتها. لم تكن تعلم على وجه اليقين أن الأرض صالحة للزراعة، لكنها قررت أن تجرب. جرأتها على المحاولة ألهمت الآخرين. "مر بعض من رجال القرية بينما كنت أعمل في الأرض. استغربوا تصرفي لقناعتهم أن التربة لا تصلح لزراعة الخضروات، قلت: لن نتأكد دون تجربة. حين رأوا إصراري، أخبروني أنهم سيشترون مني المحصول في حال نجحت محاولتي، وربما يحاولون زراعة أراضيهم في الموسم المقبل".

تشكو "وداد" ندرة الأمطار وقلة المعدات الزراعية المناسبة، لكنها تشكو أكثر تجاهل دعم المشاريع في المناطق الريفية. "أحلم بتعلّم أشياء كثيرة، مثل الطرق الحديثة للزراعة، كالزراعة المائية وغيرها. نحتاج أيضًا إلى تأهيل يمكّننا من التعامل مع التغيرات المناخية".
نجحت تجربة "وداد". بدأت في جني محاصيل الطماطم الكرزية والكوسا والذرة الشامية. لم تصل بعد إلى مرحلة البيع وتحقيق الأرباح، لكنها تعمل جاهدة لتحقيق ذلك. تقول ضاحكة: "حسنًا، يكفي أنني وجيراني لم نعد نشتري من السوق، وأننا نأكل خضارًا طازجة كل يوم".

بدأت سامية بتوفير بذور المحاصيل للمزارعين، وخاصة للنساء، بعد مرض ابنتها

تذكرت قصتيهما وأنا أتابع أخبار تراجع المساعدات والمنح الدولية المقدمة لليمن، وكان آخرها والأشد وقعًا، التخفيضات الأميركية المفاجئة. قلت: لعلّ الوقت قد حان كي نبدأ نحن أيضًا رحلة اكتشاف قوّتنا الخفيّة التي أضعفها طول الاتّكاء على المعونات، وكان من بعض نتائجه ظهور مشاريع مؤقتة تُبنى على المنح وحدها، وتنشغل بالنتائج السريعة بدل خلق تغيير دائم، ثم تتلاشى حين تتغير أولويات المانحين. وهذا ما حصل، فقد تراجع التمويل الدولي تدريجيًا حتى بلغ ذروته مطلع 2025، ليصل إلى أدنى مستوى له منذ عشر سنوات، إذ غطت المساعدات حتى منتصف مايو 9٪ فقط من إجمالي متطلبات خطة الاستجابة الإنسانية البالغة 2.48 مليار دولار، أي بانخفاض يقارب 90٪.

لهذا، قرّرت أن أتحدث مع عدد من أصحاب المشاريع التي تضررت. كنت آمل أن أسمع كلمات مطمئنة من نوع: أننا أوجدنا بدائل، وأننا مستمرون في عملنا. لكنني بدلًا من ذلك، سمعت شكاوى مريرة تتخلّلها تنهّدات، "حيرة وشعور غامر باليأس" كما وصف أحدهم. استمعت كذلك إلى رئيسة منظمة مجتمع مدني تحكي بحزن عن توقف مشروعها بعد ضياع مبلغ المنحة الموعودة، ورغم أن المنظمة تنشط منذ سنوات، إلا أنها ظلّت تعتمد على المنح في تمويلها من دون خطة للاستقلالية. ولأنه لا شيء يدوم إلى الأبد، كان حتميًا انهيار كل ما لا يُبنى على أساس متين.

منذ نحو عامين، أشارك في برنامج عن "الريادة الاجتماعية في اليمن"، هدفه تنشيط الابتكار في حل المشكلات المجتمعية، وتشجيع المشاريع الريادية على تنويع مصادر دخلها كي تبني الأساس اللازم للصمود والاستمرارية على المدى الطويل. تعرّفت إلى عشرات الشباب والفتيات من مختلف مدن اليمن، أذهلني تفكيرهم، فهمهم الدقيق لواقعهم، وتوقهم إلى التغيير الحقيقي. لديهم ما يلزم قطعًا، لكنهم يحتاجون فقط إلى من يدلّهم إلى الطريق.

في أحد التدريبات، طُلب من المشتركين التفكير في مشكلة مجتمعية ضمن محيطهم، ثم ابتكار فكرة مشروع يسهم في حل تلك المشكلة ويدرّ دخلًا في الوقت ذاته. لم نتوقع الكثير، ليقيننا أن المفهوم جديد عليهم. لكن المفاجأة أن عددًا منهم كان منخرطًا بالفعل في أنشطة تندرج تحت مسمى "الريادة الاجتماعية" دون أن يدركوا ذلك، ولديهم أهداف واضحة ورؤية للتغيير.

بعد أن سمعت كل هذه القصص، أدركت أن ما يحدث اليوم يتجاوز أزمة تمويل قصيرة الأمد، وأن المطلوب هو تغيير أعمق يبدأ من الداخل. هذا الشعور أعاد إلى ذهني قصة طفولية أحبها كثيرًا وهي "ماري"، الطفلة النحيلة الشاحبة في رواية الحديقة السريّة والتي يغلب على حياتها الخمول والرتابة. اعتادت وجود من يعاونها في كل شؤونها، حتى في ارتداء ملابسها. إلى أن كانت مأساة وفاة والديها، وانتقالها للعيش مع أحد أقاربها. وهناك تُركت وحيدة معظم الوقت، فتعلّمت الاعتماد على نفسها. ثم اكتشفت مفتاحًا مدفونًا في باحة المنزل يعود إلى حديقة ورد مهجورة. عزمت "ماري" على أن تعيد الحياة إلى الحديقة، وخلال رحلة التغيير تلك تبدّلت الفتاة واستردت عافيتها وقوتها، فكانت الحديقة السريّة رمزًا للصمود في مواجهة الأزمات، واكتشاف الذات والقدرات الخفيّة الكامنة.

ثمة قصص كثيرة تشبه قصة سامية ووداد، أصحابها ينتظرون من يتذكرهم بالتشجيع والدعم وبرامج التدريب. فهؤلاء من سيمهّدون مرحلة التغيير والانعتاق من قيود المساعدات نحو بناء واقع أكثر صلابة. ولعلّ ما حدث ليس شرًا كله، ربما هو فرصة كي نستجمع قوانا ونبحث عن المفتاح المدفون لحديقتنا السريّة.