للأماكن عادةً قصص ترويها، وتفاصيل سردية تحفظها في زواياها وعلى جنبات شوارعها، لكن هذه القصص ليست كغيرها إن كانت لمدينة يعود تاريخها إلى 2500 عام، كمدينة صنعاء القديمة التي مرّت عليها دول وحضارات وحقب تاريخية متنوعة.
وفي جلسة عابرة بسمسرة وردة الواقعة وسط المدينة الأثرية، يجد الزائر نفسه يقرأ صفحات مكان ما يزال متشبثًا بتاريخ يوشك أن يُطمَس نتيجة للاستحداثات التي طالته، وحوّلته من مَزار أثري إلى مسكن للأسرة التي تملكه، باستثناء باحة صغيرة وغرفة مستحدثة للقادمين لزيارة السمسرة وشرب الشاي أو تناول بعض الأكلات التي تُقدَّم فيها.

خانات سلطانية
تُعرَف السماسر بأنها خانات سلطانية تنتشر في أنحاء مدينة صنعاء القديمة، ويعود تاريخها إلى مئات السنين، وارتبط ظهورها بالتطور الحضري، وتحول المدينة إلى مركز تجاري يقصده الناس من مدن ومناطق كثيرة.
وبحسب المهندس سمير الشوافي، مدير مركز التدريب والتأهيل المعماري بالهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية، فإن عدد السماسر التي بُنيت خلال أزمنة مختلفة وصل إلى 148 سمسرة عامة وخاصة، منها 34 سمسرة كانت لها شهرة كبيرة ومكانة فاعلة، خاصةً أنها ارتبطت بأعمال التجارة والخدمات المتعلقة بها.
وتختلف السماسر في البناء وعدد الطوابق والموقع. فمن الناحية المعمارية، تميزت بنمط معماري لا يختلف عن نمط بيوت المدينة إلا في بعض التفاصيل الفنية، حيث بُنيت معظمها من الأحجار الترابية، واستُخدمت مادة "الياجور" في زخرفتها وتزيين الطوابق العلوية، فيما تستمد الضوء من خلال فتحات صغيرة في السقف أو الجوانب. وراعت في تصميمها أن تكون محاطة بفناء يسمح بتقديم خدمات للزوار، وعادةً ما تكون السمسرة ذات مدخل واحد ليتسنّى مراقبة الداخل والخارج.
وبحسب دراسات معمارية، راعت تصاميم السماسر الوظائف الخدمية التي تُقدِّمها؛ فسماسر الإيواء، التي تُقدم ما يُعرف اليوم بالخدمات الفندقية، تتكون من عدة طوابق، وقد يصل عدد غرف الدور الواحد إلى أكثر من 16 غرفة، كما يُخصص كل دور منها لغرض أو أكثر. وخُصص بعضها الدور الأرضي للدواب والرواحل، كما كان الحال في سمسرة النحاس المكونة من أربعة طوابق تتوسطها باحة متوسطة الحجم.
وصُممت بعض السماسر لتخزين البضائع وعرضها، حيث تُخصص كل واحدة منها لسلعة محددة كسمسرة القشر وسمسرة الزبيب. وتُعد سمسرة محمد بن الحسن فريدة من نوعها، حيث كانتالش بمثابة أول بنك في المنطقة، يُقدم خدمات المصارفة للذهب والفضة والعملات النقدية، وحفظ الودائع.

معالم حضارية
السماسر ليست سوى واحدة من الشواهد الأثرية التي تعبر عن المستوى الحضري الذي وصل إليه الإنسان اليمني القديم، والازدهار الذي مرت به الدولة اليمنية، وجعلها قبلة تجارية تتهافت القوافل إلى أسواقها.
يقول المهندس الشوافي: "كانت السماسر إحدى عوامل النهضة، وشكلت نواة التطور والتحضر في مدينة صنعاء القديمة، حيث ساهمت وظائفها في تطور التجارة، وتسهيل حركة البضائع والمعاملات والحياة اليومية للتجار".
وبمثابة "المولات" التجارية الحديثة، كانت بعض السماسر التجارية تمثل أسواقًا رئيسية يأتي إليها التجار للتزود بالبضائع، أما الحوانيت فقد تم ابتداعها لاحقًا، وكانت أشبه بالبسطات في الوقت الراهن، حد وصف المهندس خالد وهاس، مستشار رئيس الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية.

الصمود في وجه الإهمال
تحاول ما تبقى من السماسر الصمود في وجه التحديات والتقلبات السياسية والاقتصادية، ولو تخلّت عن وظائفها الأصلية، كسمسرة النحاس التي تحولت بعد ترميمها إلى "المركز الوطني للحرف التقليدية اليمنية"، ومحال تجارية تُباع فيها مشغولات ينتجها المتدربون، وسمسرة "المنصور" التي تُعرف حاليًا بـ"المركز الوطني للفنون".
يؤكد المهندس وهاس في حديثه لمنصة اليمن أن معظم السماسر، بسبب غياب الاهتمام، أُغلقت أو تحولت إلى ملكيات خاصة، وأُعيد بناء بعضها بشكل مغاير، علاوة على فقدان وظائفها الأصلية.
ويرجع وهاس الأسباب إلى فقدان الأسواق ذاتها وظائفها القديمة، وتحولها إلى عشوائيات.
علامات الحزن والحسرة تظهر واضحة على وجه المهندس الشوافي ونبرة صوته عند الحديث عن الوضع الحالي للسماسر، وحجم الإهمال الذي طال هذه المعالم حتى أصبح بعضها آيلًا للسقوط، كسمسرة محمد بن الحسن، أو مهجورًا، أو أُغلق بسبب مشاكل بين الورثة.
وبلهجة صارمة، يؤكد الشوافي أن السماسر، حتى الخاصة منها، لا يجوز أن تتحول إلى ملكيات شخصية باعتبارها إرثًا حضاريًا وإنسانيًا عالميًا، ويجب على هيئة الحفاظ على المدن التاريخية أن تفرض سلطتها عليها وعلى كل كتلة حضارية داخل مدينة صنعاء، وتوقف أي عبث يطالها.
المال على حساب التراث
أُنشئت الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية عام 1997، بعد ما يقارب 11 عامًا من إدراج مدينة صنعاء القديمة ضمن قائمة التراث العالمي، وبموجب القانون رقم 16 لسنة 2013، أصبحت الهيئة الجهة المسؤولة عن الحفاظ على مدينة صنعاء القديمة وموروثها، إلا أن الهيئة العامة للأوقاف تتصدر المشهد، وترفض التنازل عن صلاحيات الإشراف على مدينة صنعاء، باعتبار أن معظم مبانيها وحوانيتها وقفية.
ويقول مختصون في الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية إن الأوقاف تُلغي صلاحيات الهيئة، وتستمد قوتها من الدولة، ولا تهتم سوى بجمع المال دون وضع أي اعتبارات للجانب الأثري.