تـابعـنـــا
Facebook IconTwittter IconInstagram Icon

رحلتي الأخيرة من مطار صنعاء... على متن طائرة لن تقلع مجدداً

لم أكن أعلم أنني على وشك مغادرة مطار صنعاء الدولي على متن واحدة من آخر الرحلات المدنية، قبل أن يخرج المطار عن الخدمة بفعل قصف جوي إسرائيلي.

صباح يوم الثلاثاء، 21 مايو/أيار، صعدت على متن طائرة من طراز "إيرباص 330" — هي الوحيدة المتبقية في أسطول الخطوط الجوية اليمنية في مطار صنعاء، بعد أن دُمِّرت ثلاث طائرات مدنية في غارات إسرائيلية سابقة في السادس من مايو/أيار 2025. لم أكن أعلم حينها أن هذه الطائرة ستُقصف بعد ثمانية أيام، لتُغلق معها آخر نافذة للسفر جوًّا من منطقة تنهشها الحرب.

ما إن خطوت أمتارًا قليلة باتجاه بوابة دخول المطار، حتى أدركت أنني في مكان لم أعد أعرفه. المطار الذي كان نابضًا بالحياة تحوَّل إلى مكان محفوف بالمخاطر؛ هنجر مقسَّم إلى صالات مؤقتة، آثار دمار واضحة، وأجهزة قديمة بالكاد تعمل.

موظفون بملامح متوترة، وعمال يحملون الحقائب بأيديهم إلى عربة متواضعة تنقلها إلى الطائرة. الجميع يعمل بعَجَلة، وكأنهم يدركون أن المطار قد يُقصف في أي لحظة.

استقبلنا مضيفو الطائرة وقد غابت عن وجوههم الابتسامة، على غير العادة

داخل صالة الانتظار، كانت المشاعر خليطًا من الألم والخوف.. نساء يحملن تقارير طبية، رجال يسيرون بعكازات، أطفال في أحضان أمهاتهم، وكبار في السن على كراسي متحركة... جميعهم يرغبون في مغادرة البلاد إما للعلاج، أو لِلَمّ شمل، أو لأسباب أخرى، من بينها الهرب من الواقع الصعب الذي تعيشه بلادهم. الجميع هنا يعلم أن هذه الطائرة قد تكون الفرصة الأخيرة.

استؤنف العمل في مطار صنعاء مجددًا بإمكانات متواضعة جدًا، بعد نحو عشرة أيام من قصف إسرائيلي عنيف تسبب في خروجه عن الخدمة.

حين وصلت إلى مدخل التفتيش، سألني ضابط أمن المطار (يتبع جماعة الحوثي):
"أين المحرم؟"
أجبته: "في المنزل".
طلب إرسال صورة بطاقة والدي لتأكيد موافقته. في لحظة واحدة، شعرت أنني على وشك أن أفقد آخر فرصة للسفر. لحسن الحظ، أُنجزت الإجراءات بسرعة، وتنفسْتُ الصعداء.

في صالة المغادرة، جلست بجانب امرأة في العقد الخامس من عمرها لم تتوقف عن الدعاء. ظلت تكرر: "اللهم فرّج عنا وعلى بلادنا، اللهم احفظ بلادنا من كل سوء".

داخل صالة الانتظار، كانت المشاعر خليطًا من الألم والخوف

خرجنا إلى ساحة المطار، وبيننا وبين الطائرة الوحيدة، مشهد ممتد للدمار: مبنى مهدّم، طائرات محترقة، برج مراقبة لا يزال صامدًا رغم الدمار الذي أصاب أجزاء منه. نظرات الذهول كانت واضحة في عيون جميع المسافرين أثناء صعودهم إلى الطائرة؛ جميعنا من مناطق وعائلات مختلفة، لكننا تشاركنا شيئًا واحدًا: مشاعرنا الممزوجة بالخوف والحزن والصدمة.

استقبلنا مضيفو الطائرة وقد غابت عن وجوههم الابتسامة، على غير العادة.

سألت أحد المضيفين عن رقم مقعدي، إذ لم تكن التذاكر تحمل أرقام مقاعد. أجابني بانفعال: "اختاري أي مقعد واجلسي. احمدي الله أننا لا نزال قادرين على الطيران. نحن في حالة حرب وقد نتعرض للقصف في أي لحظة".

لم أغضب. أدركت أن ما قاله لم يكن قسوة، بل يأسًا وقلقًا مشتركًا.

أقلعت الطائرة، حاملةً معها أوجاعنا، ودعواتنا، والقلق الذي كان يملأ الطائرة كما لو كان جزءًا من وقودها.

في 29 مايو/أيار، بعد ثمانية أيام فقط من مغادرتي، استهدفت مقاتلات إسرائيلية مطار صنعاء مجددًا. كان الحُجّاج اليمنيون ينتظرون الصعود إلى الطائرة ذاتها حين استهدفت الغارات الأولى مدرج المطار. هرع الجميع للهرب، لكن ضربة أخرى جاءت مباشرة على الطائرة، فحوّلتها إلى هيكل محترق.

كان المشهد المنتشر على منصات التواصل الاجتماعي مؤلمًا: الطائرة التي حملتنا تحترق على المدرج، ولن تقلع مجددًا أبدًا.

حين رأيتُ صور الطائرة المحترقة، لم أملك سوى الصمت. كنت من بين آخر من غادروا على متنها. شعرت بالحزن، ليس فقط على الحديد الذي احترق، بل على الوجوه التي كانت تأمل بالمغادرة لأسباب عدة.

قبلها بثلاثة أسابيع، كانت إسرائيل قد دمرت ثلاث طائرات مدنية تابعة للخطوط الجوية اليمنية. والآن، الرابعة احترقت في لحظة. لم يتبقَّ شيء. أُغلق المطار، وعمّ الصمت المكان؛ فلا أصوات محركات طائرات، ولا مسافرين، ولا عمّال.

وفقًا للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا، بلغت القيمة السوقية للطائرات الأربع التي تم تدميرها 130 مليون دولار، منها 40 مليونًا لطائرة من طراز "إيرباص 330"، و90 مليونًا لبقية الطائرات الثلاث.

وقد حمّلت الحكومة الحوثيين "كامل المسؤولية".

في الرابع من مايو/أيار، أطلق الحوثيون صاروخًا باليستيًا فائق الصوت من نوع "فلسطين 2" باتجاه مطار بن غوريون في تل أبيب، "ردًا على العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة"، حسب وصفهم، في أول هجوم مباشر من اليمن على إسرائيل منذ اندلاع حرب غزة. الصاروخ تجاوز الدفاعات الجوية الإسرائيلية وسقط في محيط المطار، مسببًا حالة من الذعر.

في اليوم التالي، بدأت إسرائيل حملة عسكرية على أهداف حوثية في اليمن، شملت ميناء الحديدة (غربًا)، ومطار صنعاء، ومنشآت مدنية ومحطات كهرباء. وفي السادس من مايو، دمّرت الغارات ثلاث طائرات مدنية بالكامل، وألحقت أضرارًا كبيرة بالبنية التحتية للمطار.

قالت إسرائيل إن هجماتها تأتي "لمنع استخدام تلك المنشآت في تهريب السلاح والمقاتلين"، فيما رد الحوثيون بأنهم "يدعمون الفلسطينيين في غزة ولن يتوقفوا حتى يتوقف العدوان الإسرائيلي."

وحدهم المدنيون من يدفعون الثمن.

مطار صنعاء لم يكن مجرد منشأة؛ كان الأمل الأخير في بلد أنهكته الحرب والعزلة. بإغلاقه، أُغلقت أبواب الحياة أمام مئات المرضى وآلاف اليمنيين الذين لم يعودوا يملكون سوى انتظار المعجزة.

اليوم ها أنا أحمل تذكرة عودة بتاريخ محدد إلى مطار صنعاء... لكن أين الطائرة التي ستحملني؟ لست وحدي عالقة بعيدة عن الوطن؛ فأنا مثال واحد لآلاف اليمنيين العالقين.