منذ سنوات طويلة، توقفت يد الستيني صالح الحيمي عن نقش ونحت التحف النحاسية التقليدية التي عمل بها لأكثر من عقدين من الزمن، وانصرف إلى أعمال السباكة والكهرباء ليعيل أسرته بعد أن تدهورت مبيعات المنتج التراثي وانحسر سوقه، الا أن الحنين لفن النحت الذي عشقه، ووجد نفسه فيه ما يزال يسكنه، وتظهر الشجون على ملامح وجهه ونبرات صوته عند الحديث عنه.
من لون الذهب الذي يسحر العيون، وجمال الزخارف والتشكيلات التي أبدعت أيادي الحرفيين اليمنيين في رسمها، اكتسبت المشغولات النحاسية التقليدية في اليمن فخامتها، وتحولت إلى تحف فنية حرص الناس على اقتنائها كتعبير عن الذوق الرفيع والأصالة، والمظهر الجذاب الذي يزين البيوت منذ قرون من الزمن.
علاقة اليمني بالمنتجات والأدوات النحاسية ضاربة في القدم، وتمتد لقرون طويلة من الزمن، وقد كشفت المسوحات الأثرية والدراسات التاريخية، أن صناعة النحاس في اليمن تعود إلى عصر الدولة الحميرية التي امتد حكمها من العام 115 قبل الميلاد حتى عام 525 بعد الميلاد.

وبحسب ما تتبعه الباحث إبراهيم بن ناصر البريهي عن الاكتشافات الأثرية لتاريخ الصناعات التقليدية في اليمن، ووثقه في كتاب "الحرف والصناعات في ضوء نقوش المسند الجنوبي" فقد بينت القطع والمصابيح البرونزية والنحاسية التي عثرت عليها البعثة النمساوية أن تاريخ صناعة النحاس يعود إلى نهاية الدولة الحميرية.
حتى الماضي القريب ارتبطت صناعة وتجارة التحف والمشغولات النحاسية بالمدن اليمنية القديمة كتعز وصعدة، وصنعاء التاريخية التي ماتزال حوانيتها قائمة، وخصص لها سوق باسم سوق النحاس الذي ما يزال حتى اليوم يروي تفاصيل تاريخ تلك الحرفة، على الرغم من تناقص عدد المحلات المخصصة لتسويقها وتحول بعضها الى تجارة بضائع أخرى.
لون النحاس الجذاب وخواصه، والمرونة التي يتمتع بها، كالقدرة على تشكيله ونحته، علاوة على توفر المادة الخام في عدد من المحافظات اليمنية ساهم في ازدهار صناعته، وتوجُه الحرفيين إلى تعلم واكتساب مهارات تشكيله، لاسيما يهود اليمن الذين كان لهم بصمات خاصة في أغلب الصناعات التقليدية.
وما بين الماضي والحاضر تكونت هوة كبيرة في الصناعات النحاسية، وانتكست مرحلة الازدهار في صناعته، وليس صالح الحيمي وحده من انصرف عن الأعمال التقليدية النحاسية، فكثير من الحرفيين سلكوا الطريق ذاته، وانتقلوا إلى مهن وأعمال أخرى أكثر جدوى اقتصادية ومردود مالي.
يقول الحيمي لـ"منصة اليمن": العمل اليدوي والنقش التقليدي يحتاج إلى كثير من الوقت والجهد لوصول المنتج إلى الشكل النهائي، علاوة على أن منتجاته محدودة نظراً لعدم وجود تشكيلات متنوعة من القوالب التي تساهم في تشكيله، بعكس المنتج الخارجي كالصيني والهندي وغيرهم التي تصنع عبر الآلات الحديثة، والقوالب المتعددة بسرعة وبإشكال وأحجام شتى، مما جعل المنتج المحلي أمام المنافسة غير متكافئة.

غزو المنتجات المستوردة
"حقيقة مفزعة" بهذه العبارة وصفت لجنة مسح الحرف في صنعاء القديمة التابعة للهيئة العامة للآثار في اليمن في تقريرها واقع المنتجات النحاسية، وعبرت عن مخاوفها في عدم العثور على أي شواهد تدل على استمرار هذه الحرفة، على الرغم من تأكيدها وجود بعض الأسر التي كانت حتى وقت قريب تمارس هذه الحرفة، إلا أن عبد الكريم البركاني، مدير عام حماية الآثار والممتلكات الثقافية بالهيئة العامة للآثار في حديثه لـ"منصة اليمن" يقول أن المنتج المحلي في متاجر المقتنيات النحاسية ما يزال يمثل 30% من المعروض بالسوق.
ويرجع تجار الأدوات النحاسية أسباب تدهور الحرفة إلى غزو المنتجات المستوردة، وارتفاع أسعار المنتج المحلي مقارنة بالخارجي، وتناقص عدد الحرفيين العاملين في هذا المجال، والغياب التام لاهتمام الجانب الرسمي.
ويؤكد التجار، أن أغلب المنتجات المحلية المتواجدة بالسوق ليست جديدة، وتمت صناعتها خلال فترات زمنية متفاوتة.
ويُحمّل البركاني الدولة ووزارة الثقافة المختصة بحماية المهن التقليدية الجزء الأكبر من مسؤولية تراجع المشغولات النحاسية بسب غياب السياسة الرسمية، وعدم وجود رقابة وتنظيم للسوق، مما أدى إلى إغراق السوق بالمنتجات السورية والأفغانية والهندية والصينية خاصة من منتجات الإكسسوارات.
ويبرر البركاني، أن ارتفاع أسعار المقتنيات المحلية يرجع لاستخدام الحرفيين اليمنيين النحاس ذات الجودة العالية والأصلي الذي لا يتغير مع مرور الزمن، بالإضافة إلى الجهد والوقت الذي يستغرقه في الإنتاج، وارتفاع أسعار قوالب التصميم، بعكس المنتج المستورد الأقل جودة.
ويتفق البركاني مع التقارير التي تشير إلى تناقص عدد الحرفيين العاملين في صناعات النحاس التقليدية، مرجعا ذلك إلى أسباب اقتصادية وإهمال حكومي، وعدم وجود جمعيات للحرفيين تحافظ على حقوقهم، وتتبنى مطالبهم، وتسوق منتجاتهم داخليا وخارجيا.

استراتيجيات تنشيطية
تتنوع المقتنيات التقليدية النحاسية في حوانيت صنعاء القديمة بين الطاسات والمداعة "النرجيلة" واللوحات الجدارية التي تنقش عليها آيات قرآنية أو أبيات من الشعر أو الحكم، والكؤوس والأباريق، والزخارف والإكسسوارات والتحف والمزهريات وغيرها من المصنوعات التي ما تزال كثير من الأسر تهتم باقتنائها، وتحب أن تزين بها منازلها على الرغم من تدهور المستوى الاقتصادي وتغير الأوضاع الحياتية والأذواق.
ووسط العديد من المتغيرات المهنية والحياتية التي أثرت على سوق المقتنيات النحاسية، برزت تبعات الحرب التي تشهدها اليمن منذ نهاية العام 2014، على المهنة ومبيعاتها كتدهور أوضاع الناس المعيشية، وضعف القدرة الشرائية، وغياب السياح الأجانب الذين كانوا يقتنون الكثير من المنتجات والتحف النحاسية، ويساهمون في تنشيط السوق، إلا أن التاجر عبدالباري المسوري يعتقد أن للحرب جانب إيجابي تمثل في الحد من تدفق المنتجات المستوردة، والعودة التدريجية للصناعات الحرفية المحلية.
وعلى الرغم من تعدد المشاكل التي تهدد استمرار الحرفة إلا أنه ما يزال بالإمكان إنعاش سوق الحرف التقليدية التراثية إذا توفرت الإرادة للجهات الرسمية، وسعت إلى تنفيذ دراسات وأنشطة تثقيفية للتعريف بأهمية الحرف، ووضع برامج وحوافز لتشجيع الحرفيين، وافتتاح مراكز تدريب لتوسيع أعداد العاملين فيها، وإعادة تأهيل الذين انقطعوا عن العمل سنوات طويلة، كما يقول الباحث والمختص بالآثار عبدالكريم البركاني.
ويؤكد البركاني أهمية وضع امتيازات لأرباب المهن، وإعفاءات من الرسوم والضرائب، وإعداد استراتيجية لتصدير منتجاتها، وإيجاد أسواق محلية وخارجية تعيدها إلى مكانها الصحيح.