يمثل السمسم إرثًا زراعيًا عريقًا بمأرب، ويُعد من أقدم المحاصيل التي اعتاد المأربيون زراعتها؛ باعتباره مصدر غذاء يومي ودخلًا أساسيًا لكثير من الأسر. غير أن إنتاجه تراجع بشكل حاد خلال السنوات الست الأخيرة مع ظهور آفة حشرية غريبة أتلفت المحصول، وكبّدت المزارعين خسائر فادحة.
وفي مشهد غير مسبوق، شهدت مدينة مأرب، شمال شرق اليمن، أول مهرجان للسمسم بالمحافظة، بمشاركة 100 من المزارعين ورائدات الأعمال والمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وسط حضور جماهيري كبير.
المهرجان، الذي نُظّم خلال الفترة من 3 إلى 5 سبتمبر 2025، لم يكن مجرد نشاط تسويقي، بل إعلانًا رسميًا عن عودة السمسم إلى واجهة المشهد الزراعي في مأرب، بعد أن كاد يختفي من المحافظة خلال السنوات الماضية.
مبروك حسين الأشول، أحد مزارعي مأرب الذين توقفوا عن زراعة السمسم منذ سنوات، قال متحدثًا عن آخر تجربة: "زرعت أرضًا مساحتها نحو 70 × 70 مترًا، وواجهتنا حينها حشرة حمراء أتلفت المحصول بالكامل".
وأضاف: "11 كيسًا لم أُدخل منزلي منها حبّة سمسم. رميناها للدجاج والطيور لعدم صلاحيتها للاستخدام أو البيع. الحشرة حوّلت لون البذور إلى الأحمر، وأصبح الزيت المستخرج منها أشبه بزيوت المحركات المستعملة".
ولهذا، قال إنه اضطر لترك زراعة السمسم، ومثله كثير من المزارعين، خصوصًا في مديريتي المدينة والوادي.
هذا التراجع انعكس على إنتاج زيت “الجلجل” في أسواق مأرب، وشهدت أسعاره ارتفاعًا قياسيًا، إذ وصل سعر العبوة (750 مل) إلى 50 ألف ريال (نحو 31$). ورغم تزايد الزيوت الطبيعية المستوردة إلا أنها لا توازي جودة المنتج المحلي، وفق عبدالرحمن الحداد، أحد المنتجين المحليين.

عودة الحياة للسمسم
وسط هذه التحديات، انطلق مطلع فبراير الماضي مشروع تطوير “سلسلة القيمة لمحصول السمسم” بمأرب، لإعادة مكانته كأحد أهم المنتجات الزراعية بالمحافظة، واستعادة قيمته الاقتصادية المعهودة.
وكان المهرجان الأخير تتويجًا لهذا المشروع التنموي الذي موّله الاتحاد الأوروبي عبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ونفذه ائتلاف الخير للإغاثة الإنسانية.
في حديثه عن المشروع، أوضح المهندس صالح بامخشب، مدير البرامج والمشاريع في ائتلاف الخير، أن عملهم مع المزارعين شمل جميع مراحل القيمة، بدءًا من اختيار البذور وحتى التسويق. وبالتوازي قال: "قمنا بتكوين رواد أعمال، شباب ونساء، لاستقبال المحصول وتحويله إلى صناعات غذائية. دعمنا الشباب لإنشاء معاصر سمسم، ودربناهم على تشغيلها. كما دربنا رائدات الأعمال على إعادة تشكيل حبوب السمسم في أكثر من 20 صنفًا غذائيًا".
المهندس الزراعي محمد عزي كابع، أحد كوادر الإرشاد الزراعي بمأرب الذين شاركوا في تنفيذ المشروع، أوضح أن الهدف كان "السيطرة على آفة البقة الحمراء، وإعادة الثقة بمحصول السمسم، واستعادة قيمته التسويقية بعد أن تراجعت وانحصرت زراعته تمامًا".
ووفقًا للمهندس كابع، فإن هذه الحشرة دخلت مأرب عبر بذور مستوردة من القرن الأفريقي، لافتًا إلى ظاهرة مشابهة انتشرت بشكل كبير جدًا في السودان قبل 6 سنوات، وتدخلت المنظمة العربية لمواجهتها.
وأضاف أن المشروع شمل تكليف 10 مهندسين استشاريين للعمل مع 200 مزارع لتطبيق ممارسات زراعية متكاملة من البذرة إلى الحصاد، مع التركيز على العمليات اليدوية المعقدة الضرورية لضمان جودة المحصول.
إنتاجية غير مسبوقة
وفق المهندس بامخشب، فإن المشروع أحدث نقلة نوعية في إنتاج السمسم بمأرب. وقال إن بعض المزارعين أنتج أكثر من 30 كيسًا (50 كجم لكل كيس)، والبعض وصل إنتاجهم إلى 50 كيسًا مقارنة بأعوام سابقة لم يزرعوا فيها بسبب الآفات أو نقص البذور المحسّنة.
واتفق كابع على أن هذا الموسم شهد ارتفاعًا ملحوظًا في الإنتاجية وصولًا إلى 1300 كجم للهكتار، بل تجاوزها في حالات إلى طن و800 كجم، مرجعًا ذلك إلى "الالتزام بالتوصيات الإرشادية، وضبط الري، ومكافحة الآفات".
وللمرّة الأولى، قال إن المؤسسات الزراعية الثلاث اجتمعت بهذا المشروع: مكتب الزراعة ممثلًا بالإرشاد الزراعي، ومحطة البحوث الزراعية، وفرع مؤسسة إكثار البذور، التي قامت بتوفير البذور، وتعقيمها، واختيار أفضلها.

ريادة نسائية بارزة
كان اللافت في المهرجان الحضور الكبير لرائدات الأعمال، اللاتي قدّمن منتجات محلية صنعنها بأنفسهن من السمسم شملت: الزيوت الطبيعية، والصوابين، والكريمات، ومنتجات غذائية متعددة.
من هؤلاء، نادية الحويسك التي قالت إن مشاركتها في المهرجان منحتها فرصة للترويج لمنتجاتها وعلامتها التجارية، مؤكدة أن البرنامج مكّنها من إنشاء مشروعها الخاص وصناعة منتجات محلية أغلبها من السمسم.
إلى جوارها، قدّمت رباب القرضي منتجات طبيعية تشمل: صوابين، وشامبوهات، وكريمات، ومنظفات طبيعية.
في الجهة المقابلة، تواجدت رائدة الأعمال فاطمة علي التي تحدثت لمعدّ التقرير عن تجربتها الناجحة في إنتاج الطحينية المحلية والمعجنات بعد تلقيها دعمًا وتدريبًا ضمن المشروع استمر ثلاثة أشهر بواقع 6 دورات تدريبية.
وأضافت: "تعلمنا استخلاص زيت السمسم، وصناعة الطحينية بأنواعها، وبعض المعجنات، والمنظفات". مؤكدة أن البرنامج طوّر مهاراتها، وساعدها في النهوض، وقدم لها كل ما كان ينقصها، بما فيها حقيبة أدوات مهنة متكاملة.
ووصفت إقبال الناس على منتجاتها بأنه "كبير جدًا"، وبالأخص مع منتجات السمسم؛ الذي قالت إنه أضاف للمنتجات "نكهة جديدة ومميزة". حاليًا، تسعى فاطمة لتوسيع مشروعها ليكون "معملًا متكاملًا للمعجنات والحلويات".
عودة السمسم إلى الحقول
في مزرعته بمنطقة عرش بلقيس جنوب مدينة مأرب، حيث يزرع البرتقال والمانجو والبرسيم وغيرها من المحاصيل، يستعد مبروك لاستئناف نشاطه في زراعة السمسم بداية فبراير القادم، بعد نجاح التجارب الأخيرة.
أما مبارك الحداد، فقد بدأ منذ يوليو الماضي بزراعة السمسم في جزء من أرضه بمنطقة المنين، مدفوعًا أيضًا بنجاح الموسم السابق. ومثله مزارعون كُثر استأنفوا نشاطهم بكثافة، خاصة مع ارتفاع سعر السمسم عقب تراجع إنتاجه سابقًا.
بيئة مثالية لزراعة السمسم
بحسب المهندس كابع، فإن السمسم يُزرع في اليمن على مساحة تقدر بـ 21,500 هكتار، بإنتاجية تصل إلى 1,052 كجم للهكتار الواحد. وتأتي محافظة مأرب ثانيًا بعد الحديدة الساحلية في حجم الإنتاج.
ويُعد مناخ مأرب الصحراوي الحار، وفق كابع، "ملائمًا جدًا لزراعة السمسم مقارنة بالمناطق الجبلية، إذ ينمو في مدى حراري بين 25 و35 درجة مئوية، وهو متوسط الحرارة خلال موسم الزراعة الرئيسي بمأرب في شهري فبراير ومارس".
ولطبيعة أرض مأرب المفتوحة، ووفرة مصادر المياه الجوفية، خاصة بمديريتي المدينة والوادي، قال إنها شجعت المزارعين على الاستثمار في زراعة السمسم، وبات يُزرع على مساحات تصل أحيانًا من 3 إلى 4 هكتارات لكل مزارع، مما يعزز مكانة المحافظة كمركز رئيسي لإنتاج السمسم.
ويُسوّق السمسم إما كبذور أو كزيت بلدي بعد عصره تقليديًا بواسطة الجمل أو الآلات الكهربائية. وإلى جانب أسواق مأرب، تُوزّع كميات منه إلى صنعاء وذمار وعدن، فيما يُصدَّر جزء محدود إلى دول الخليج وشرق أفريقيا.
أصالة وقيمة غذائية
على بعد نحو 5 كم جنوب مدينة مأرب، تقع معصرة عبدالدائم دركم لإنتاج زيت السمسم من محاصيل مأرب. قال إن الإقبال على زيت "الجلجل" أو "السليط" البلدي يتزايد، خاصة من سكان محافظات صنعاء والبيضاء وذمار. وأضاف: "يأتون بكثافة، وبالأخص حينما تكون الطرق الرئيسية المؤدية إلى مأرب مفتوحة".
تحدث دركم عن القيمة الغذائية والصحية للزيت المحلي "الأصيل"، مؤكدًا أنه طبيعي 100% وآمن للمرضى، ويُستخدم للطبخ وللأكل مع أي وجبة.
ورغم التحسن الملحوظ في زراعة السمسم، إلا أنه ذكر تحديات متعددة منها منافسة المحاصيل الزراعية الأخرى والزيوت المستوردة، داعيًا المزارعين إلى تكثيف زراعة الحبوب كون "المنتج البلدي أفضل قيمة وأكثر فائدة من المستورد".
ويشاطره الرأي عبدالرحمن الحداد، الذي أكد أن البعض يندفع لزراعة محاصيل أخرى كالبطاط والبصل نظرًا للعائد المادي الكبير والسريع، ويفضلها بعض مالكي الأراضي على حساب "الجلجل".
عن سبب اختيار السمسم كمحور للمشروع، قال بامخشب: "أردنا إحياء هذا المحصول القومي من جديد لأنه يوفر إيرادات كبيرة للبلاد، وكاد أن يندثر". مؤكدًا أن "بعض المزارعين استطاعوا تصديره إلى خارج اليمن".
فيما أكد كابع أن السمسم "من المحاصيل النقدية الرئيسية التي يعتمد عليها سكان مأرب، والمحافظات المجاورة مثل شبوة وحضرموت والجوف، حيث يشكل جزءًا أساسيًا من غذائهم".
وأوضح أن الصنف البلدي ذي اللون الأبيض هو المفضل والأكثر طلبًا وانتشارًا؛ لصفاء لونه الأصفر ولمعانه. مشيرًا إلى زيادة الطلب عليه في دول الجوار لاستخدامه كزيت طبيعي صحي، ويتضاعف أكثر في رمضان.
نحو الاستدامة
إلى جانب دعم الإنتاج، قال بامخشب إن المشروع "أسس بيئة متكاملة لدعم ريادة الأعمال من خلال إنشاء غرفتي عمل متخصصتين: FSS المعنية بالأعمال الزراعية، وABC لدعم رواد الأعمال وإعداد دراسات الجدوى للمشاريع الناشئة. إضافة إلى تخصيص مليون دولار في بنك الأمل كتمويل ميسّر لرواد الأعمال والمزارعين".
وأكد أن بإمكان من يرغب في بدء مشروعه الخاص أن يمر أولًا بغرفة FSS لأخذ التدريب، ثم يتجه إلى غرفة ABC لإعداد دراسة جدوى شاملة، ومن ثم يتجه إلى بنك الأمل للحصول على قرض ميسّر لينطلق في سوق العمل.
وعمومًا، شمل المشروع "تأهيل مركز البحوث الزراعية بمأرب، وإنشاء أول مختبر متكامل على مستوى الجمهورية لفحص التربة، والمياه، والآفات، والحبوب، وكل ما يتعلق بمحصول السمسم. وكذلك تأهيل استشاريين في سلسلة القيمة".
وأوضح المهندس بامخشب أن المشروع لا ينتهي بالمهرجان، وإنما دخل مرحلة جديدة بإشراف السلطة المحلية، التي قال إنها تتولى حاليًا إدارة المشروع وتحضير مراحل جديدة. مشيرًا إلى أنها قد تُنظم نسخًا ثانية وثالثة من المهرجان. مضيفًا أن الجهة المانحة تدرس حاليًا إطلاق مرحلة ثانية من المشروع مع المزارعين ورواد الأعمال بقيادة السلطة المحلية.
وأكد إمكانية تطبيق هذه التجربة على محاصيل زراعية أخرى بعد وضع "القالب المؤسسي والتدريبي الكامل" خلال هذا المشروع.
المهندس كابع اعتبر هذا المشروع "نجاحًا كبيرًا"، مؤكدًا أنه "أعاد الثقة بمحصول السمسم المهم". وأضاف: "نسعى إلى تعميم التوصيات، وإدخالها في عمليات الاستثمار الجيد لتوسيع زراعة السمسم بعد تحديد الآفة المدمّرة، والمبيد المناسب للقضاء عليها".
تمثل هذه التجربة نموذجًا فريدًا للتكامل بين المجتمع المحلي والسلطات الرسمية والمنظمات الدولية. ولم تتوقف عند إنقاذ المحصول القومي فقط، بل أعادت الثقة بالزراعة كمصدر دخل واستثمار مستدام في محافظة تمتلك كل المقومات الزراعية. وبينما يستعيد السمسم عافيته، يظل التحدي في تحقيق استدامة هذه الجهود وتوسيع نطاقها.