تـابعـنـــا
Facebook IconTwittter IconInstagram Icon

الشاعر القمندان.. سردية العشق والعناق بين الكلمات والفل

من صوت المربية البدوية الشابة مريم وإيقاع أغانيها الريفية في المساء، تشربت روحه بمعاني الوجد وصور الحب والجمال، وبدأت تُطرب لهمس الكلمات وإيقاع النغم واللحن الذي سيرسم ملامح مستقبله ويشكل جانباً هاماً من شخصيته.

"القمندان" أو الشاعر الأمير أحمد فضل العبدلي، تلك الشخصية الفريدة التي شكلتها طريقة حياة الأسرة الحاكمة، ومجالس السياسة والشعر، والعيش تحت سلطة الاحتلال والسفر والاختلاط بثقافات أخرى، ومحطات متنوعة من حياة الأمير وقائد الجيش والفلاح العاشق لرائحة الزرع وجمال الزهور.

ولد الشاعر والملحن والسياسي والخبير الزراعي القمندان في العام 1881 بمحافظة لحج، أو ما كانت تعرف بسلطنة لحج خلال فترة الاحتلال البريطاني للشطر الجنوبي من اليمن، في أسرة سلطانية ووسط ثقافي ساهم في خلق شغفه بقراءة الكتب والمجلات باللغتين العربية والإنجليزية، التي بنى منها شخصية فريدة تجاوزت عصره بمراحل طويلة، وصقلت موهبته في الشعر والتلحين والكتابة.

من أين جاء لقب القمندان؟

لم يلتحق الشاعر القمندان بمدارس وكليات العلوم العسكرية، إلا أن حياته العسكرية وخبرته الحربية الطويلة كان لها تأثير كبير على صبغته الشعرية، فاستخدم المصطلحات والإشارات والرتب العسكرية لإضفاء طابع جمالي على أشعاره.

تشير المصادر التاريخية  إلى أن شخصيته القوية والثقة التي يحظى بها عند عمه - سلطان لحج - جعلته يكلفه بتشكيل جيش السلطنة وقيادته، وهو ما يزال فتىً في التاسعة عشرة من عمره.

لم ترق الحياة العسكرية كثيرا للأمير الشاب، فقرر أن يتخلى عنها ويفضل حياة بلا قيود ويتفرغ للشعر والكتابة، إلا أن بصمات تجربته في الجيش رافقته مدى الحياة، ولم يكن لقب القمندان الذي اشتهر به سوى تحريف للمصطلح العسكري الإنجليزي Commander، كما تؤكد المصادر التاريخية.

تحديث ومزج الثقافات

بدأ الشاعر القمندان كتابة الشعر منذ طفولته، وعاش حياة أدبية حافلة، إلا أنه لم ينجز سوى ديوان واحد بعنوان "المصدر المفيد في غناء لحج الجديد"، والذي صدر للمرة الأولى عن مطبعة الهلال بعدن في العام 1938، ويتضمن 90 قصيدة من أصل 95 قصيدة منسوبة للشاعر، تنوعت بين اللونين الفصيح والشعبي، وحملت مشاعر الحب والجمال والعتب والفخر وحب الوطن، وقضايا مجتمعية وسياسية.

يؤكد نقاد الأدب أن القمندان برع في كتابة ألوان الشعر، وأجاد تأليف كافة قصائد الموشحات والأغاني والأناشيد، إلا أنه أبدع بشكل خاص في كتابة الشعر الغنائي، وبالتحديد الأشعار الشعبية العامية، مستعينًا في ذلك بموهبة كبيرة في التلحين.

وتأثر الشاعر والملحن العبدلي بشكل واضح بالشعر والفن الصنعاني والشعر الحميني، واستطاع بذائقته الفنية الفريدة المزج بينه والألوان اليافعية والحضرمية والتراث الشعبي اللحجي والأغاني الريفية، وابتكار نمط شعري وغنائي لحجي كمدرسة مستقلة، ولون جديد يعود له الفضل في تأسيسه.

في الثلاثينات والاربعينيات من القرن الماضي ذاع صيت القمندان كملحن شاب ومجدد فني، ولاقت الأغاني التي لحنها وغناها عضوا فرقته الفنية «فضل محمد جبيلي» و«مسعد بن أحمد حسين» انتشارًا واسعًا وكانت أولى تلك الأغاني «البدرية» و«تاج شمسان» و«همهم على الماطر حبيب نشوان» التي سُجلت من قبل شركتي تسجيل ألمانيتين، إضافة إلى شركة «التاج العدني».

ولم تتوقف مسيرة تلحين قصائده، وبعد عقود من وفاة الشاعر ظهر الفنان فيصل علوي كضلع مكمل لمثلث العشق والإبداع لرواية للقمندان والحسيني الفنية، فتحولت على يديه وبعض الفنانين اليمنيين جزء كبير من قصائد الديوان إلى أغاني شهيرة مثل قصيدة "يا أبو زيد" و"حالي وا عنب رازقي" و"نجيم الصباح" و"يا وليد يا نينوه"، وغيرها، إلا أن الأشهر كانت قصيدة "يا منيتي يا سلى خاطري"، التي تجاوزت حدود اليمن وغناها العديد من الفنانين الخليجيين والعرب.

ثنائية الحب "الحسيني والقصيدة"

سلام مني عليكم يا حبايب

يوم الهنا باتجونا لا الحسيني

حيّا لكم بانسوّي كل واجب

أهلاً على الرأس يا أحبابي وعيني

بهذه الأبيات الشعرية الرقيقة تلوح شخصية القمندان للوافدين إلى الحسيني مهبط عشقه، وهو يحتضنهم ترحيبا وكرما، ويتراى لهم طيفه يهيم وسط الأشجار، ويهمس لهم من خلف براعم الفل والكاذي بكلمات الود، ويسقيهم من كؤوس حب الجمال الذي أدمنه.

وادي الحسيني واحدة من سمفونيات الحب الخالدة الأبرز للشاعر القمندان، التي خالطها بروحه وتنفسها من خلال الكلمات عشقا وأنغامًا، وغرسها في قصائده كما غرس ورود البساتين وفواكهه وعمل منه لوحة فنية أبدع في نحتها تشجيرا وشعرًا، فجعل الناس تتوق إلى رؤيته، وترتاده كمتنفس طبيعي.

ولم يكن الحسيني للعبدلي مجرد وادي زراعي مكسو بالخضرة والشجر، وإنما حالة عشق ذاب كل منهما في الآخر، فاكتفيا ببعضهما، وأعطيا بعضهما الاهتمام والحب، وصار مصدر إلهام يشعل قريحته الأدبية والفنية، ويشتق من المروج والفل والكاذي صور الحب والجمال.

تشير الروايات التاريخية إلى أنه بعد أن ترك القمندان الحياة العسكرية، كان يقضي معظم أوقاته في بساتين الحسيني، لا سيما في فترة الحصاد، الذي جعل منه مهرجان مفتوح للفنون الشعبية، تُلقى فيه القصائد، وتصدح منه المواويل والأغاني.

تحول الحب إلى شغف، والشاعر إلى خبير زراعي، وأول مُزارع في اليمن يبدع في تنسيق البساتين، ويتفنن في غرس الورد، ويجمع بين الجمال والوظائف الزراعية، ووصلت مرحلة الاهتمام إلى استقدام العديد من النباتات والورود من الهند واستزراعها بالبساتين، ومنها النباتات العطرية والفل، الذي أصبح رمزًا لمدينة لحج.

يغادر الزائر للحسيني المكان لكن لا يفارقه الشعور بأن روح المكان ما تزال مسكونة بطيف الشاعر والمزارع، وأن كلماته وألحانه ما تزال ترددها الرياح، ويخيل إليه أنه هناك في البعيد يراقب المكان ويحركه الشوق لزيارة الوادي وهو يقول:

يا ذي تبون الحسيني

عزمت با أسري معاكم

شخصية سبقت عصرها

علاوة على إنجازاته في الشعر والتلحين والزراعة، قاد القمندان حملة تجديد ونهضة فنية غنائية وثقافية فريدة، وكان له مساهمات فاعلة في تأسيس المنتديات والنوادي الثقافية في عدن ولحج، منها نادي الأدب العربي في عدن عام 1925، وافتتح أول مدرسة موسيقية في لحج على نفقته الخاصة، تخرج منها عدد من الشعراء والملحنين الذين حملوا بصمته، ومن أشهرهم الشاعر عبد الله هادي سبيت، والشاعر عبد الكريم عبد الله، والمغني والملحن فضل محمد اللحجي.

وكما كان القمندان شاعرًا وملحنًا موهوبًا، فقد كان مؤرخًا وكاتبًا سياسيًا، حيث قام بتأليف كتاب "هدية الزمن في أخبار ملوك لحج وعدن"، الذي يعد مرجعًا تاريخيًا وأهم المصادر والوثائق التاريخية للأوضاع السياسية في سلطنات الجنوب إبان الاحتلال البريطاني، بالإضافة إلى تاريخ عائلة القمندان الحاكمة.

وفي دفاعه عن الغناء والموسيقى أمام الفتاوى التي اجتهدت في تحريمها، قام القمندان بتأليف كتاب "فصل الخطاب في إباحة العود والرباب"، الذي جمع فيه أقوال فقهاء وعلماء وأئمة تفند تلك الفتاوى وتبيح استخدام الآلات الموسيقية، إلا أن الباحثين يعتقدون، أن الكتاب جاء في الأساس ردًا على علماء الشطر الشمالي من اليمن الذين كانوا يعيشون تحت جهل سلطة الأئمة المستبدين وعزلتهم، بينما كانت عدن تعيش مرحلة انفتاح ولا تحتاج من يدافع فيها عن الأغاني.

لون الفرح والمناسبات

توفي الشاعر القمندان في العام 1943، إلا أن كلماته العابرة لحدود الزمان ما تزال تسكن أفراح اليمنيين، وعلى أنغام كلمات:

واعلى امحنا، واعلى امحنا

سعد يا مسعود فاح عرف العود

والعديد من القصائد التي غناها فنانون وفنانات من أجيال مختلفة، ما تزال الصبايا تتمايل على إيقاعها في الأعراس والمناسبات.