تـابعـنـــا
Facebook IconTwittter IconInstagram Icon

غبت عنا يا حارثي

"غاب عني وذكره لا يغيب" ليست شكوى عاطفية، ولا مناشدة لعودة الحبيب، بل مطلع أغنية جميلة للفنان الكبير محمد حمود الحارثي، الذي توفي عام 2007 بعد عمر حافل بإبداع فني استمر قرابة نصف قرن.

هذه الأغنية سمعها أبي - حفظه الله - في سينما الشرق بمدينة عدن أواخر عام 1964، أيام تواجد الاستعمار البريطاني الذي احتل مناطق حيوية في الجنوب اليمني لأكثر من قرن قبل رحيله عام 1967.
قال أبي إن الفنان الكبير الحارثي حضر حينها وهو في قمة شبابه، وأقام فعالية غنائية فريدة في سينما الشرق، وغنى عدة أغانٍ منها هذه الأغنية: غاب عني وذكره لا يغيب... ونزح وهو عن ذكري قريب...

ردد أبي البيت الأول بصوت شغوف، فاندهشت كيف أنه ما زال يحفظها حتى اليوم، ونبّه إلى أن الحارثي كان يغني وكأنه "يرقّص النجوم في السماء"، في إشارة إلى قوة الإتقان وتفاعل الجمهور.

في تلك الفعالية كانت أيضًا الفنانة اليمنية آمنة حزام متواجدة بجانب الحارثي – بحسب أبي – الذي أوضح أنها قدمت أغنية: من اليمن نازلين زوّار ومسافرين... سألتهم عن حبيبي قالوا حبيبك حزين...

وأنا أستمع للحارثي قلت في نفسي لا شعوريًا: ما هذا الصوت الفريد؟ ما هذا الجمال المميز؟ هذا هو الذوق! كله على بعضه روعة في روعة: صوت وأداء وكلمات ولحن وعمل بإتقان.

واجه الحارثي صعوبات في الكشف عن موهبته وتنميتها، لكنه واصل الكفاح في سبيل الحلم الفني حتى أصبح أحد أبرز الأصوات الغنائية في تاريخ اليمن

اليمن يستقبل الحارثي

تختلف الروايات حول تاريخ ميلاد الفنان الحارثي بين أعوام 1933 و1934 و1935، لكن أغلبها ترجح أن العام الأخير هو الذي استقبل فيه اليمن مولوده الجديد محمد حمود، في تلك الحقبة التي كان حاكمها الإمام يحيى حميد الدين، وهي فترة طغى فيها الجهل والمرض والتخلف في مختلف مناحي الحياة.

أما مكان ميلاده فكان في مديرية شبام كوكبان بمحافظة المحويت غربي اليمن، والتحق بالدراسة في الكتّاب (تسمى أيضًا المعلامة)، ثم انتقل إلى المدرسة العلمية في مدينة كوكبان، فدرس فيها علوم الفقه واللغة العربية، واشتهر في هذه المدرسة بجمال صوته وجودة ترتيله للقرآن الكريم، وإلى جانب دراسته كان يعمل بنشاط في الزراعة.

بدأ شغفه بالغناء وهو في سن العاشرة، فكان يغني لزملائه في الكتّاب أو ما تُسمى المعلامة، ولما عمل بالزراعة تأثر كثيرًا بالأهازيج الشعبية التي تُنشد في المواسم الزراعية المختلفة، فقد كانت تصل إليه سرًا بعض الأسطوانات الغنائية بأصوات عدد من مطربي ذلك العصر في عدن مثل أحمد عبيد قعطبي، وعلي باشراحيل، وإبراهيم الماس.

صعوبات البداية

واجه الحارثي صعوبات في الكشف عن موهبته وتنميتها، لكنه واصل الكفاح في سبيل الحلم الفني حتى أصبح أحد أبرز الأصوات الغنائية في تاريخ اليمن.

وحول بداياته الفنية الأولى، قال الحارثي في مقابلة مع قناة اليمن الرسمية أجراها المذيع عبد الملك السماوي إنه التقى في كوكبان بفنان قديم يُدعى أحمد طاهر، فأُعجب به وبالعود الذي معه، فذهب إلى عمه علي الحارثي وقال له:
"والله ما اشتي إلا مثل هذا الطرب (العود)".
فرد عليه عمه: "أنت معك القرآن" (أي احفظ القرآن بدلًا من الغناء).
فقال له: "كل شيء لحاله... هذا صوته حالي (رنين العود)"، في إشارةٍ إلى أنه سيواصل الاهتمام بالقرآن الكريم إلى جانب الفن.

بعد ذلك اقتنع عمه، واستعار له عودًا يسمى عود بيت الشرفي أو عود الوقف، وكان متاحًا لمن يريد أن يتعلم العزف عليه، وبدأ مشوار العزف والفن.
وبعد وفاة صاحب العود، استمر الأخير يتنقل من بيت لآخر حتى استقر عند الحارثي، حسب حديث الفنان الراحل.

بدأ الحارثي شغفه بالغناء وهو في سن العاشرة، فكان يغني لزملائه في الكتّاب أو ما تُسمى المعلامة

السفر إلى صنعاء

في عام 1957 انتقل إلى مدينة صنعاء وهو في سن الثانية والعشرين – إذا صحت رواية أن ميلاده في عام 1935 – ونجح في الانخراط بمجالسها، وتعرّف على عدد من الفنانين الكبار أمثال علي بن علي الآنسي (توفي عام 1981)، وأحمد السنيدار (ثمانيني معاصر)، فبدأ يمارس الغناء الفعلي في هذه المجالس التي كان فيها قدر كبير من الأنس والانجذاب المجتمعي.

وعقب اندلاع ثورة 26 سبتمبر عام 1962 شهد اليمن تحولًا كبيرًا في شتى مجالات الحياة، بما في ذلك الجانب الفني، حيث تعيَّن الحارثي عضوًا في الفرقة الموسيقية التي تشكّلت بعد قيام الثورة بأسابيع قليلة، ثم عمل أمينًا للمكتبة الفنية في إذاعة صنعاء، أهم الإذاعات اليمنية الحكومية.

وفي عقد الستينيات صدح الحارثي بعددٍ من الأغاني الوطنية والثورية، منها: جمهورية جمهورية والشعب في العهد الجديد، وسحقنا الطغاة، إضافة إلى أغنية هذه أرضي وهذا وطني.

وبعد ذلك أدّى أولى أغانيه العاطفية "حُميّمة باتت تردد ألحان" عام 1970، بحسب بعض المصادر، وهي أغنية شهيرة غناها فنانون آخرون في وقت لاحق، وسمعتها مرارًا بصوت الفنان فؤاد الكبسي، وتُعد من الأغاني الجذابة التي ما زال العديد منا يسمعها حتى اليوم؛ بينما مصادر أخرى تفيد بأن الحارثي كان قد أدى بعض الأغاني العاطفية في الستينيات بينها أغنية "غاب عني".

أعمال فنية خالدة

تجربتي مع الحارثي قد تستحق الاهتمام، كوني استمعت إلى العديد من أغانيه التي أحفظ بعضها نتيجة عشقي لها، وهو أمر دفعني إلى كتابة هذه المادة بعد بحثٍ واسع.

ومن أبرز الأغاني التي استمعت لها مرارًا: عليك سموني، مال غصن الذهب، خلي جفاني بلا سبب، يا خلي الأحور الأحوم، رب بالسبع المثاني، أخضر لمه تبخل عليّ بوصلك، إضافة إلى الشوق أعياني، ورد السلام، وسلام يا غوطة الأهجر، وألف أنا، واحالية، وغيرها من الأغاني الجميلة الجذابة التي تم إتقانها بشكلٍ لافت من قبل هذا الفنان المحترف بصوته وأدائه وسجيته المتواضعة اللافتة.

ولا يوجد رقم دقيق لعدد أغاني الحارثي، لكن بعض المصادر تقول إن حصيلة مشواره الفني تصل إلى نحو 90 أغنية عاطفية وقرابة 50 أغنية وطنية، فضلًا عن أكثر من 30 توشيحًا دينيًا.
وبخصوص الشعراء الذين تغنّى الحارثي بقصائدهم، فأبرزهم: حسين بن علي حمود شرف الدين، عبد الله عبد الوهاب نعمان، عثمان أبو ماهر، مطهّر الإرياني، محمد الذهباني، وعبد الله هاشم الكبسي، إضافة إلى محمد عبد الله شرف الدين الكوكباني صاحب قصيدة عليك سموني وسمسموني التي يزيد عمرها على 500 عام.

فارس بلا منازع

استمعت إلى أكثر من مقابلة متلفزة حول سيرة الحارثي، وفي إحداها يقول الشاعر الكبير الراحل عبد العزيز المقالح إن الحارثي "استقى الفن من منبعه، ولم يكن مقلدًا من المقلدين، وإنما كان يُقلَّده الآخرون ولا يُقلِّد أحدًا"، معتبرًا هذه ميزةً له، "فهو فنان نشأ في بيئة فنية، ولا بد أن يختزن في روحه ووجدانه الجميلَ الأغانيَ التراثيةَ التي لا تُبارى؛ فعندما تريد سماع الأغنية التراثية كما هي، فهو فارسها دون منازع".

بينما وصف وزير الإعلام الأسبق الراحل حسن اللوزي الحارثي بأنه: "شخصية نادرة لا يمكن إلا أن تحترمها وتتعلق بها... شخصية فنية رائعة يقدم عمله بكل إخلاص لفنه، وكل محبة لمن حوله... قدم الأغنية اليمنية بأجمل ما يكون".

أما الشاعر الكبير عباس الديلمي فقال: "كان الحارثي يحفظ المئات من القصائد، الفنان الذي يغني في الجلسات وليس أمامه مذكرة مكتوبة، لأنه كان يحفظ الكثير من القصائد، وغنّى لفئات الشعب بأكملها".