هل تخيلت يوماً حدائق معلقة تتدلى من الصخور، فيما أنت تلج إليها عبر ممرات محفورة في الجبال، ثم تستلقي فيها على كهوف تحولت إلى غرف فسيحة؟ تنتظرك هذه التجربة الفريدة وأكثر في "منتزه السكون"، أحد أجمل المعالم السياحية في اليمن، حيث يمكنك تحويل خيالك المجنون إلى واقع مذهل.
متلاحماً مع مدينة التربة، جوهرة التاج لمحافظة تعز، يتدلى منتزه على شكل حدائق معلقة تتحدى جاذبيه وديان لحج الخضيرة، تراه على ارتفاعه شاهق يصل إلى 2200 متر فوق سطح البحر. وكأنه سفينة تبحر على غيوم سماء عدن، بأفق جوي مفتوح على مراوح بحرية، تزف اليه الغيوم الموسمية الماطرة، من القارة الأفريقية والمحيط الهندي.

تتنوع تضاريس منتزه السكون بشكل كبير، حيث تتخللها الجبال الشاهقة والوديان الخضراء والكهوف الطبيعية، مما جعل تحديد مساحته الدقيقة أمراً صعباً. وبناءً على آخر الدراسات الميدانية والتخطيطات الهندسية التفصيلية، يمكن تقدير مساحة المنتزه بحوالي 0.45 كيلومتر مربع، أي ما يعادل حوالي 10% من مساحة مدينة التربة. يُظهر هذا الرقم الاستغلال الأمثل للمساحة المتاحة بفضل التخطيط المدروس والتصميم الهندسي المبتكر الذي استفاد من التضاريس المتنوعة، حيث تم دمج الكهوف الطبيعية في تصميم المنتزه وتحويلها إلى غرف وممرات، وتم إنشاء الحدائق المعلقة لتتناسب مع ميلان الأرض."
جرأة الحلم: من الخيال إلى الواقع
لم يكن "منتزه السكون" مجرد حلم، بل كان تحدياً صعباً تحول إلى واقع ملهم بفضل رؤية المهندس اليمني محمد سيف الخالد. فبعد أن ورث قطعة أرض واسعة في قرية حصبرة، الواقعة اليوم ضمن حدود مدينة التربة، قرر الخالد، وهو صاحب واحد من أبرز مكاتب الهندسة المعمارية في أبو ظبي، تحويل هذه الأرض إلى تحفة معمارية فريدة.

في حديثه القصير مع "منصة اليمن" يؤكد الخالد بأنه واجه تحديات كبيرة في بداية المشروع، حيث كانت الأرض موزعة على مناطق متفرقة ومتداخلة مع أراضٍ أخرى. ومع ذلك، تمكن بفضل إصراره ورؤيته الثاقبة من شراء الأراضي المجاورة وتوحيد مساحته. وفي عام 1993، بدأ الخالد بتحويل جزء من هذه الأرض إلى مزرعة "إمارات التعاون"، والتي سرعان ما تحولت إلى واحة خضراء تزود المدينة بالفواكه والأكسجين النقي. وقد زاد من قيمة هذا المشروع بأن أنشأ برجاً شاهقاً يوفر إطلالة بانورامية خلابة على المدينة والمناطق المحيطة بها. يقول المهندس الخالد إن هذا البرج كان بمثابة مصدر إلهام له لبناء منتزه السكون القائم اليوم، حيث تخيل تحويل هذه الأرض إلى حديقة معلقة واسعة تمتد على مساحات شاسعة، مستوحياً فكرته من الإطلالة الساحرة التي كان يراها من قمة البرج.
بدأ العمل فيه في منتزه السكون عام 2007، بتكلفة إجمالية بلغت مليار وثلاثمئة مليون ريال يمني، وتم افتتاحه رسمياً في عام 2012. ورغم توقف أعمال التوسعة مؤقتاً بسبب الظروف التي تمر بها اليمن، إلا أن المنتزه يظل شاهداً على إصرار الإنسان على التحول والتغيير، حيث استطاع الخالد تحقيق حلمه بتحويل قطعة أرض قاحلة إلى تحفة معمارية فريدة.
استغل الخالد التضاريس الوعرة للمنطقة، حيث قام بدمج الكهوف الطبيعية في تصميم المنتزه وتحويلها إلى غرف وممرات، كما أنشأ الحدائق المعلقة لتتناسب مع ميلان الأرض. وفي الجزء العلوي من المنتزه، تم إنشاء حدائق خصبة تزخر بأنواع مختلفة من الفواكه، مما يجعله مكاناً للاسترخاء والتأمل والاستمتاع بجمال الطبيعة.

استلهم الخالد في تصميم المنتزه من مختلف الحضارات والثقافات، فجمع بين روعة الحدائق المعلقة في بابل وفكرة النحت في الصخر، وبين حدائق شينزين الصينية واهتمامه بالطبيعة والاستدامة، وبين حدائق كيو اللندنية وتنوعها النباتي، وبين الحدائق الإيرانية التقليدية واهتمامه بالتناظر والهندسة. ومع ذلك، فإن الهوية اليمنية تبرز جلية في كل ركن من أركان المنتزه، من خلال استخدام الحجر الطبيعي المحلي والزخارف الإسلامية التقليدية والنباتات المحلية.
وإجمالاً يعد منتزه السكون اليوم نموذجاً عالمياً للحدائق المستدامة التي تحافظ على التراث الثقافي والتاريخ الطبيعي. فهو ليس مجرد منتزه، بل هو تحفة فنية هندسية شاهدة على إبداع الإنسان وتحديه للطبيعة.
جنة هروبك إلى سلامك الداخلي
يجد زوار في منتزه السكون متنفساً لهروبهم من صخب الحياة، حيث يمكنهم الاستمتاع بجمال المناظر الطبيعية الخلابة، واستكشاف الكهوف والوديان، وممارسة رياضة المشي لمسافات طويلة. كما يوفر المنتزه للأطفال تجربة لعب فريدة من خلال مجموعة متنوعة من الألعاب التقليدية. هناك أيضاً تتشابك الممرات الحجرية مع الخضرة المورقة، وتوفر الكهوف المضاءة ملاذاً للراحة والاسترخاء، كما تتدلى الحدائق المعلقة من عنق الجبل لتوفر إطلالات بانورامية خلابة تشعرك وكأنك تطير فوق العالم..
تقول الدكتورة الفت الدبعي، أستاذة علم الاجتماع بجامعة تعز، إن منتزه السكون يتجاوز كونه مجرد مكان للاستجمام والترفيه، فهو ملاذ حقيقي للبحث عن السلام الداخلي والتأمل. ففي هذا المكان، حيث تتداخل الطبيعة الخلابة مع الهندسة المعمارية الخضراء، يمكن للفرد أن يتصل بعمق بذاته وبما يحيط به. وتضيف الدكتورة الدبعي أن المشي البطيء بين الممرات الحجرية، والاستماع إلى صوت المياه المتدفقة، والجلوس تحت ظل الأشجار، كلها عوامل تساهم في خلق حالة من الهدوء والسكينة، مما يجعل منتزه السكون مكانًا مثاليًا لممارسة التأمل واليوغا.
ورغم التحديات الجسيمة التي فرضتها الحرب على اليمن منذ العام 2015، استطاع منتزه السكون أن يحافظ على جاذبيته السياحية، بل وتزايدت شعبيته عاماً بعد عام. يشهد على ذلك سجل الزوار السنوي لدى إدارة المنتزه والذي يشير إلى استقبال المنتزه ما متوسطه 300 زائر يومياً، ويرتفع هذا الرقم إلى 500 زائر في أيام العطل، ويصل إلى ذروته في الأعياد حيث يستقبل نحو 4000 زائر يومياً. ويؤكد المهندس وضاح النظاري مدير منتزه السكون بأن هذا الإقبال الكبير للزوار من مختلف المحافظات اليمنية يشكل نجاحاً لافتاً للمشروع وجذبيته للسياح، ولكنه في الوقت نفسه يشكل ضغطاً على البنية التحتية والخدمات المقدمة في المنتزه. ومع ذلك، فإن هذه التحديات تمثل فرصاً ذهبية لتطوير المنتزه وتحويله إلى وجهة سياحية عالمية، وذلك من خلال تنويع الأنشطة، وتحسين الخدمات، والتسويق والترويج له.
يقول محمد الحسيني، زائر من محافظة إب، عن المنتزه: "إنه مكان راقٍ ومناسب للعائلات، التصميم رائع جداً". وتوافقه الرأي سالي عفيف من عدن قائلة: "الأجواء جميلة والبادرة رائعة، لقد أحببنا المكان كثيراً".
ويستقطب المنتزه الزوار من مختلف المحافظات، خاصة خلال فصل الصيف، هرباً من حرارة المناطق الساحلية. فمناخه المعتدل طوال العام يجعله ملاذاً مثالياً للاسترخاء والاستمتاع بالطبيعة.
وتصف الصحفية فاطمة مطهر المنتزه بأنه "مكان تسكن إليه النفس"، مشيرةً إلى أن كل زاوية فيه تحمل في طياتها جمالاً خاصاً. وتضيف: "تم بناء المنتزه على جبل مطل على وادٍ أخضر، وكل شيء فيه منحوت من الصخر بأسلوب فني بديع. ومن أبرز ما يميزه تلك الغرفة والسرير المنحوتان من الصخر، بالإضافة إلى وجود مزرعة فواكه مجاورة.
محكية المدينة التركية واسطورة قرية الجن
تعتبر العلاقة بين مدينة التربة وقرية الحنان علاقة فريدة، حيث شكلت التضاريس الصعبة تحدياً للإنسان، وفي نفس الوقت قدمت له فرصاً لا حصر لها للإبداع. كانت هذه القرية الصغيرة ملاصقة للمدينة، ولكنها كانت معزولة عنها بسبب المنحدر الصعب.. ورغم ذلك، كانت الحياة تزدهر فيها، حيث كان سكانها يعتمدون على الزراعة وتربية المواشي. وتروي أساطير المنطقة أن الجن سكنوا هذه القرية، مما دفع سكانها إلى الهجرة إلى التربة بحثاً عن الأمان تاركين خلفهم قرية مهجورة تطل عليها من بعيد أعين زوار منتزه السكون اليوم.
فيما يعود تأسيس مدينة التربة إلى نهاية القرن التاسع عشر، عندما لجأ العثمانيون إليها هرباً من الأوبئة التي كانت تفتك بجنودهم في المناطق المنخفضة. يقول المؤرخ أحمد الوزير، ابن مدينة التربة، أن الأتراك اختاروا هذه المنطقة تحديداً نظراً لمناخها المعتدل، مما جعلها ملاذاً آمناً من الوباء. كما أن قربها من قلعة المقاطرة، التي شهدت صراعات تاريخية، قد عززت القلعة من الأهمية الاستراتيجية للمدينة التي أسسها الأتراك تفادياً للأمراض، ومستغلين ارتفاعها وقربها من القلعة لحمايتهم.
وقد لاحظ العثمانيون، عندما لجأوا إلى هذه المنطقة هربًا من الأوبئة، أن السكان المحليين يتمتعون بمعرفة عميقة بالطبيعة وبأسرار هذه الجبال. ويعتقد البعض أن هذه المعرفة قد ورثوها عن قبيلة الحنان القديمة التي اختفت آثارها مع مرور الزمن. وتضيف الأسطورة أن القبيلة كانت تمتلك خرائط سرية تكشف عن أماكن وجود المياه العذبة والكنوز المدفونة. وقد تركت هذه الخرائط إرثاً غامضاً، حيث يعتقد البعض أن هذه الكنوز ما زالت مخبأة في مكان ما بالمنتزه أو القرية ذاتها. ولهذا السبب، يواصل المستكشفون المحليين البحث عن هذه الكنوز، آملين العثور عليها.
رئة المدينة الخضراء
مع مرور الزمن، تطورت مدينة التربة وتوسعت، وقد لعب منتزه السكون دوراً حيوياً في الحفاظ على التوازن البيئي في المنطقة، خاصة في ظل التوسع العمراني العشوائي الذي شهدته المدينة في السنوات الأخيرة نتيجة للنزوح الكبير. فقد أصبح المنتزه ملاذاً للحياة البرية، ومساحة خضراء واسعة تمتص ثاني أكسيد الكربون وتنتج الأكسجين النقي.
حتى العام 200، كانت درجة الحرارة مستقرة في مدينة التربة، إلا أن هذا المناخ بدأ يتغير تدريجياً مع التوسع العمراني الذي ابتلع الأراضي الزراعية المحيطة بالمدينة. هنا برز دور منتزه السكون كحاجز طبيعي يقلل من حدة التغيرات المناخية ويحافظ على درجة حرارة معتدلة.
تؤكد لينا جميل، المدير التنفيذي للمركز اليمني للإعلام الأخضر، بأن منتزه السكون يحقق توازناً مثالياً بين الحفاظ على البيئة وتطوير المجتمع. فمن خلال تصميمه المستوحى من الطبيعة واعتماده على التقنيات المستدامة، أصبح هذا المنتزه رئة المدينة الخضراء، يحميها من التلوث ويحسن جودة الهواء. كما أنه يوفر ملاذاً آمناً للحيوانات والنباتات ويعزز التنوع البيولوجي.
وحسب جميل " لم يقتصر دور منتزه السكون على الجانب البيئي فحسب، بل امتد إلى الجانب الاجتماعي والاقتصادي حيث يجتمع فيه الناس للاسترخاء والترويح عن أنفسهم، مما عزز الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع. كما أنه يوفر فرص عمل لسكان المنطقة ويدعم الاقتصاد المحلي.
واليوم، يسعى القائمون على المنتزه إلى تطويره وتحويله إلى وجهة سياحية عالمية، تتضمن فنادق ومطاعم سياحية، وتطوير البنية التحتية، وتنويع الأنشطة الترفيهية.
وختاماً يبقى الحفاظ على منتزه السكون وتطويره هو مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الجميع، وذلك لضمان استمرارية هذا الإرث وتقديمه للأجيال القادمة. ومع استمرار الدعم والاهتمام، يمكن لمنتزه السكون أن يصبح أيقونة للسياحة البيئية في اليمن، ويعزز مكانة البلاد كوجهة سياحية مستدامة وعالمية.