تـابعـنـــا
Facebook IconTwittter IconInstagram Icon

منتزه السكون.. تحفة عالمية بهوية يمنية

هل تخيّلت يوماً حدائق معلّقة تتدلّى من الصخور، فيما أنت تلج إليها عبر ممرّات محفورة في الجبال، ثم تستلقي فيها على كهوف تحوّلت إلى غرف فسيحة؟ تنتظرك هذه التجربة الفريدة وأكثر في "منتزه السكون"، أحد أجمل المعالم السياحية في اليمن، حيث يمكنك تحويل خيالك الجامح إلى واقع مذهل.

متّصلاً بمدينة التربة، جوهرة تاج محافظة تعز، يتدلّى المنتزه على هيئة حدائق معلّقة تتحدّى جاذبية وديان لحج الخضراء، وتراه على ارتفاع شاهق يصل إلى 2200 متر فوق سطح البحر. وكأنه سفينة تبحر في غيوم سماء عدن، بأفق مفتوح على المراوح البحرية التي تزفّ إليه الغيوم الموسمية الماطرة، القادمة من القارة الإفريقية والمحيط الهندي.

يقع منتزه السكون على ارتفاع 2200 متر فوق سطح البحر، مطلاً على الغيوم والوديان التي تمتد تحته

تتنوع تضاريس منتزه السكون بشكل كبير، إذ تتخللها الجبال الشاهقة والوديان الخضراء والكهوف الطبيعية، ما جعل تحديد مساحته الدقيقة أمراً صعباً. وبناءً على أحدث الدراسات الميدانية والتخطيطات الهندسية، تُقدَّر مساحة المنتزه بنحو 0.45 كيلومتر مربع، أي ما يعادل حوالي 10% من مساحة مدينة التربة. ويعكس هذا الرقم استغلالاً مثالياً للمساحة المتاحة بفضل التخطيط المدروس والتصميم الهندسي المبتكر، الذي استفاد من التضاريس المتنوعة، فتم دمج الكهوف الطبيعية في تصميم المنتزه وتحويلها إلى غرف وممرّات، وإنشاء الحدائق المعلّقة بما يتناسب مع ميلان الأرض.

جرأة الحلم: من الخيال إلى الواقع

لم يكن "منتزه السكون" مجرّد حلم، بل كان تحدّياً صعباً تحوّل إلى واقع ملهم بفضل رؤية المهندس اليمني محمد سيف الخالد. فبعد أن ورث قطعة أرض واسعة في قرية حصبرة، الواقعة اليوم ضمن حدود مدينة التربة، قرر الخالد، وهو صاحب أحد أبرز مكاتب الهندسة المعمارية في أبو ظبي، تحويل هذه الأرض إلى تحفة معمارية فريدة.

تشكل الكهوف الطبيعية والحدائق المعلقة تضاريس منتزه السكون الخلابة

في حديثه القصير مع "منصة اليمن"، يؤكّد الخالد أنه واجه تحدّيات كبيرة في بداية المشروع، إذ كانت الأرض موزعة على مناطق متفرقة ومتداخلة مع أراضٍ أخرى. ومع ذلك، تمكن بفضل إصراره ورؤيته الثاقبة من شراء الأراضي المجاورة وتوحيد المساحة. وفي عام 1993، بدأ بتحويل جزء من هذه الأرض إلى مزرعة "إمارات التعاون"، التي سرعان ما تحوّلت إلى واحة خضراء تزوّد المدينة بالفواكه والأكسجين النقي. وقد زاد من قيمة هذا المشروع إنشاء برج شاهق يوفّر إطلالة بانورامية خلابة على المدينة والمناطق المحيطة بها. يقول المهندس الخالد إن هذا البرج كان مصدر إلهام لبناء "منتزه السكون" القائم اليوم، حيث تخيّل تحويل الأرض إلى حديقة معلّقة مستوحاة من الإطلالة الساحرة التي كان يراها من قمة البرج.

بدأ العمل في المنتزه عام 2007، بتكلفة إجمالية بلغت ملياراً وثلاثمئة مليون ريال يمني، وتم افتتاحه رسمياً في عام 2012. ورغم توقّف أعمال التوسعة مؤقتاً بسبب الظروف التي تمر بها اليمن، يظل المنتزه شاهداً على إصرار الإنسان على التغيير، حيث استطاع الخالد تحقيق حلمه بتحويل أرض قاحلة إلى تحفة معمارية فريدة.

استغلّ الخالد التضاريس الوعرة للمنطقة، فدمج الكهوف الطبيعية في تصميم المنتزه، وحوّلها إلى غرف وممرات، كما أنشأ حدائق معلّقة تتناسب مع طبيعة الأرض. وفي الجزء العلوي من المنتزه، أُنشئت حدائق خصبة تَزخر بأنواع مختلفة من الفواكه، مما يجعله مكاناً للاسترخاء والتأمل.

تجذب حديقة السكون مئات الزوار يوميًا، وتوفر ملاذًا هادئًا فوق السحاب

تجذب حديقة السكون مئات الزوّار يوميًا، وتوفّر ملاذًا هادئًا فوق السحاب. وقد استلهم الخالد في تصميم المنتزه من حضارات وثقافات مختلفة، فجمع بين روعة حدائق بابل المعلّقة وفكرة النحت في الصخر، وبين حدائق شينزين الصينية واهتمامها بالطبيعة، وحدائق كيو اللندنية وتنوعها النباتي، والحدائق الإيرانية التقليدية بما فيها من تناظر وهندسة. ومع ذلك، تبرز الهوية اليمنية في كل ركن من أركان المنتزه، من خلال استخدام الحجر الطبيعي المحلي، والزخارف الإسلامية، والنباتات المحلية.

ويُعدّ منتزه السكون اليوم نموذجاً عالمياً للحدائق المستدامة التي تحافظ على التراث الثقافي والطبيعي. إنه ليس مجرد متنزه، بل تحفة هندسية شاهدة على إبداع الإنسان وتحدّيه للطبيعة.

جنة هروبك إلى سلامك الداخلي

يجد الزوار في منتزه السكون متنفساً للهروب من صخب الحياة، حيث يمكنهم الاستمتاع بجمال الطبيعة، واستكشاف الكهوف والوديان، وممارسة رياضة المشي. ويوفر المنتزه للأطفال تجربة لعب فريدة من خلال مجموعة متنوعة من الألعاب التقليدية. وهناك تتشابك الممرات الحجرية بالخضرة المورقة، وتوفر الكهوف المضاءة ملاذاً للراحة، كما تتدلّى الحدائق المعلّقة من عنق الجبل لتمنح الزائر إطلالات بانورامية يشعر معها وكأنه يطير فوق العالم.

تقول الدكتورة ألفت الدبعي، أستاذة علم الاجتماع بجامعة تعز، إن منتزه السكون يتجاوز كونه مجرد مكان للترفيه، بل هو ملاذ حقيقي للبحث عن السلام الداخلي والتأمل. ففي هذا المكان، حيث تتداخل الطبيعة مع الهندسة، يمكن للفرد أن يتّصل بعمق بذاته وبما يحيط به. وتضيف أن المشي بين الممرات الحجرية، والاستماع إلى صوت المياه، والجلوس تحت الأشجار، كلها عوامل تساهم في خلق حالة من السكينة، مما يجعل المنتزه مكاناً مثالياً لممارسة التأمل واليوغا.

ورغم التحديات التي فرضتها الحرب منذ عام 2015، حافظ المنتزه على جاذبيته، بل ازدادت شعبيته عاماً بعد عام. ويشير سجل الزوار إلى استقبال ما معدله 300 زائر يومياً، ويرتفع الرقم إلى 500 في العطل، ويبلغ ذروته في الأعياد ليصل إلى 4000 زائر يومياً. ويؤكد المهندس وضاح النظاري، مدير المنتزه، أن هذا الإقبال يشكّل نجاحاً للمشروع، لكنه في الوقت ذاته يضع ضغطاً على البنية التحتية والخدمات. ومع ذلك، فإن هذه التحديات تمثل فرصاً لتطوير المنتزه وتحويله إلى وجهة عالمية.

تتدفق حدائق السكون المعلقة على طول سفوح الجبال، وتوفر إطلالات بانورامية

محكية المدينة التركية واسطورة قرية الجن 

ترتبط مدينة التربة وقرية الحنان بعلاقة فريدة، إذ شكّلت تضاريس المنطقة تحدياً وفرصة للإبداع في آنٍ معاً. كانت قرية الحنان ملاصقة للمدينة، لكنها معزولة بسبب منحدراتها. وتروي الأساطير أن الجن سكنوا تلك القرية، ما دفع السكان إلى مغادرتها إلى التربة، تاركين خلفهم قرية مهجورة، تطلّ عليها اليوم أعين زوار المنتزه.

ويُرجع تأسيس مدينة التربة إلى أواخر القرن التاسع عشر، عندما لجأ العثمانيون إليها هرباً من الأوبئة. ويقول المؤرخ أحمد الوزير إنهم اختاروها بسبب مناخها المعتدل وقربها من قلعة المقاطرة، مما أضفى عليها أهمية استراتيجية.

ويُعتقد أن سكان المنطقة ورثوا معرفة دقيقة بأسرار الطبيعة من قبيلة الحنان القديمة، التي تقول الأسطورة إنها تركت خرائط سرية لمواقع المياه والكنوز، ولا يزال المستكشفون المحليون يبحثون عنها حتى اليوم.

رئة المدينة الخضراء

مع تطوّر مدينة التربة وتوسعها، لعب المنتزه دوراً حيوياً في الحفاظ على التوازن البيئي، خاصةً مع النزوح الكبير والتوسّع العمراني العشوائي. وقد أصبح المنتزه ملاذاً للحياة البرية ومساحة خضراء تمتص ثاني أكسيد الكربون وتنتج الأكسجين.

حتى عام 2000، كانت درجة الحرارة في المدينة مستقرة، لكنها بدأت بالتغيّر بسبب الزحف العمراني. وهنا برز دور المنتزه كحاجز طبيعي يقلّل من حدّة التغيرات المناخية.

وتؤكد لينا جميل، المدير التنفيذي للمركز اليمني للإعلام الأخضر، أن المنتزه يحقق توازناً مثالياً بين البيئة والمجتمع، من خلال تصميمه المستوحى من الطبيعة واعتماده على تقنيات مستدامة. وتضيف أن دوره لم يقتصر على البيئة، بل امتد إلى دعم الاقتصاد المحلي وتعزيز الروابط الاجتماعية.

واليوم، يسعى القائمون على المنتزه إلى تطويره وتحويله إلى وجهة عالمية تضم فنادق ومطاعم وبنية تحتية حديثة.

يبقى الحفاظ على منتزه السكون وتطويره مسؤولية جماعية، لضمان استمراريته كإرث للأجيال القادمة. ومع استمرار الدعم والاهتمام، يمكن لمنتزه السكون أن يصبح أيقونة للسياحة البيئية في اليمن، ويعزز مكانتها كوجهة مستدامة عالمياً.