تناقشتُ في الفترة الأخيرة مع صديق مثقف حول الفن الغنائي اليمني، وكان حديثنا هذه المرة عن الفنان الكبير المرحوم علي بن علي الآنسي.
وأنا من الأشخاص الذين تستهويهم الأحاديث الفنية والغنائية والأدبية، كنوع من الترويح عن النفس، خصوصًا في ظل الأوضاع الصعبة والسياسية المعقدة التي يعاني منها اليمن. نحاول الهروب من الحرب إلى الفن ومن السياسة إلى الأدب، ومن الواقع المحبط إلى أغنية هنا ولحن هناك.
وكنوع من محاولة تأكيد وتعزيز إعجابي الكبير بالفنان الآنسي، سألتُ هذا الصديق المثقف: "ما رأيك فيه؟" فأجاب: "الآنسي فنان وموسيقار كبير.. كبير".
في أبريل الماضي كانت الذكرى الرابعة والأربعون لوفاة الفنان علي بن علي الآنسي، الذي رحل إلى ربه في 17 أبريل عام 1981 بعد معاناة مع المرض، وكان عمره آنذاك 48 عامًا.
وُلد الفنان الآنسي عام 1933م في حي الباشا بصنعاء القديمة لأسرة مكافحة. بعد ثورة 1948م انتقل مع أسرته إلى تعز، التي كانت حينها في العهد الإمامي عاصمة اليمن، واستقروا في منطقة الجحملية التي احتضنت تجمعات فنية وأدبية صنعانية الطابع.. ومنطقة الجحملية الآن واحدة من المناطق الشهيرة القريبة من قلب مدينة تعز.

بداية المشوار الفني
في مقابلة تلفزيونية قال الآنسي إنه بدأ مشواره الفني قبل الثورة بحوالي ثلاث سنوات أو أربع سنوات. بدأ بالأغاني العاطفية، ولكنه فيما بعد انطلق ليغني أغاني حماسية وطنية.
وعندما سمع المرحوم فضل محمد اللحجي يغني أغنية باسم "هذا التراب" تأثر بها وغناها الآنسي قبل الثورة حتى سمع بها الإمام أحمد وطلبه إليه بحسب حديث الفنان المرحوم.
بعدها أعطاه الشاعر علي صبرة كلمات أغنية "سهول الجبال" غناها في بداية الثورة. كما غنى أغنية أخرى من كلمات وألحان علي حمد الخضر وهي "جيشنا يا جيشنا"، ومن بعد ذلك توسع كثيرًا في الأغاني العاطفية والوطنية.
وفي أكثر من مقال عبر الإنترنت، يروي صديقه أمين درهم البدايات الفنية للآنسي قائلاً إن اهتماماته الغنائية انطلقت من مدينة تعز مذ كان طالبًا في المدرسة الأحمدية في خمسينيات القرن الماضي في عهد الإمام أحمد حميد الدين.
حينها امتلك الآنسي أول عود أهداه له أحد المعجبين بفنه، وهو المرحوم محمد السراجي، لكن عندما علم والده بامتلاكه عودًا في المنزل، أخذه وأحرقه في التنور على سطح البيت، وهو تعبير ضمني عن رفضه لأن يصبح ولده فنانًا.
بيد أن عزيمة الشاب وشغفه الكبير بالفن لم تثنه عن مواصلة حلمه، فقد بدأ حياته الفنية هاويًا للفن، ثم محترفًا، حتى وصل إلى مستوى كبار الفنانين، بحسب درهم.
وفي عام 1961م، زار الآنسي عدن لأول مرة برفقة صديقه أمين درهم الذي عرّفه على كبار فناني ذلك الزمن، مثل محمد مرشد ناجي، وفضل محمد اللحجي، وأبو بكر بالفقيه، وغيرهم. وشارك في جلسات طرب مع هؤلاء الفنانين وتبادل معهم الخبرات حول الألوان الفنية في مختلف مناطق اليمن، ما ساهم في إثراء تجربته الفنية وتوسيع أفقه.
وبعد ثورة 26 سبتمبر عام 1962 سافر الآنسي إلى صنعاء، حيث شارك الجنود والضباط في مواقعهم، متغنيًا بالثورة ليبث فيهم روح الحماس والانتماء والفخر الوطني ضد الحكم الإمامي. لكن مسيرته لم تخلُ من الصعوبات؛ فقد تعرض لحادث مؤلم أُسعف على إثره إلى القاهرة للعلاج عام 1963.
وحسب مقال للكاتب محمد المخلافي نشره المنتدى العربي للفنون وصحيفة رأي اليوم، فقد أُتيحت للآنسي فرصة في المستشفى للقاء الموسيقار محمد عبدالوهاب، الذي كان يزور المرضى القادمين من اليمن، سواء كانوا مصريين أو يمنيين. وبناءً على طلب عبدالوهاب، غنى الآنسي أنشودة "بسم هذا التراب"، فأُعجب الموسيقار المصري بصوت وعزف الآنسي وشجعه بشكل كبير.
ولم يمضِ وقت طويل حتى خرجت الصحف المصرية، ومنها مجلة المصور، لتشيد بهذا اللقاء الرائع، حيث كتبت: "عبدالوهاب مصر يلتقي عبدالوهاب اليمن". هذه اللفتة الجمالية في صيغة جملة على صدر صحيفة كانت بمثابة جرعة من الفخر والاعتزاز للفنان اليمني، وتعكس كيف يمكن للفن أن يتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، ويجمع بين الأجيال والفنانين في إطار مشترك من الإبداع.
وعلى مدى سنوات عديدة غنى الآنسي بعدها الكثير من الأغاني العاطفية والوطنية البارزة، ولعل ما لفت انتباهي كثيرًا وأتذكرها الآن وقت كتابة المقال أغنية "وقف ووداع"، ليلك الليل يا ليل"، إضافة إلى "ممشوق القوام"، وكذلك "نجوم الليل تسألني"، و"خطر غضن القنا"، و"يالاقي الضايعة" وكذلك" ياالله رضاك والطل في وروده"، ويا ويح قلبي.

الآنسي بين السعادة والحزن
في مقابلة تلفزيونية نادرة قبل 45 عامًا، أي عام 1980، تحدث الآنسي عن حياته الفنية والاجتماعية وبعض قناعاته في الحياة.
وقال في هذه المقابلة التي اطلعت عليها مؤخرًا بشغف كبير إنه يسعد عندما يرى الناس سعداء ويعملون بإخلاص وأمانة ونجاح وإتقان لأعمالهم. يشعر بالحزن عندما يرى شيئًا بعيدًا عن الحقيقة ويتنافى مع الواقع والصدق والمثل العليا
ويروي نجله عمر بأن الآنسي كان "إذا طرق أخوه الأكبر باب بيته وكانت دقته مميزة.. لا يسمح لأي منا فتح الباب فقد يرى في ذلك عيباً وعدم احترام، فيبادر ويفتحه بنفسه حباً وطاعة وامتنان. كان يرى في أخيه أباً والذي استحق ذلك المقام عن جداره "
دفن الآنسي
تدور أكثر من رواية حول مراسيم دفن الفنان الكبير الذي توفي في يوم الجمعة 17 أبريل 1981.
يقول أحد أقاربه في فيلم وثائقي بثته قناة السعيدة إنه توفي في تمام الساعة 11:30 صباحًا وتم دفنه خلال قرابة ساعتين فقط كون الأسرة مقتنعة بأن إكرام الميت دفنه.
بينما قال عبدالكريم تقي وهو صديق الآنسي بأن من حضر الجنازة لا يتعدى 12 رجلاً.. نتيجة الإسراع في عملية الدفن وعدم عمل مراسيم كبيرة للفنان الكبير.
أما نجل الآنسي عمر فقد أبلغنا بأن عمه القاضي محمد - رحمه الله- بصفته كبير الأسرة رأى ضرورة التعامل مع الأمر بحسب العادة والسنة ولم يأخذ بعين الاعتبار الجانب الرسمي للدولة الذي طلب تأجيل الدفن إلى اليوم التالي، واستند في ذلك بأن التأخير يؤذي الميت ويؤلم الأهل ويدمي قلوبهم، ويخالف العادة والسنة.
واعتبر عمر أن عمه واجه "الاهتمام الرسمي الكاذب الذي يأتي دائمًا بعد رحيل القامات الأدبية والفنية على وجه الخصوص بالرفض وقال: "كرامة الميت دفنه".. وكان قراره صائبًا".
ونفى رواية أن من حضروا دفنه 10 أشخاص أو 12 رجلاً قائلاً إن أسرة الفقيد وحدها كانت حينها تتعدى المائة. أضف إلى ذلك الأصدقاء والمعارف والأنساب وكل سكان الحي الذين شاركوا في التشييع، فضلا عمن علم من الأحياء المجاورة ومن علم من أهل صنعاء القديمة، وكل من حضر صلاة الجمعة في ذلك اليوم بلا استثناء.
وتظل سيرة الفنان علي بن علي الآنسي ثرية مفعمة بسحر الفن وجودة الأداء وروعة الحضور الغنائي المميز الذي مازال حيا رغم وفاته قبل عقود.